الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
معلقة زهير بن أبي سلمى
عدد أبياتها: 59 موزعة فيما يلي:
6: في الأطلال.
9: في الأظعان.
10: في مدح الساعين في السلام.
21: في الحديث إلى المتحاربين.
13: في الحكم.
بدأ معلقته بالحديث عما صارت إليه ديار الحبيبة، فقد هجرت منذ عشرين سنة، فأصبحت دمنًا بالية وآثارها خافتة، وسكنها البقر والظباء وأولادها، فكن ما بين قائمات ونائمات وماشيات، وحدانًا وأفواجًا، مقبلة مدبرة، وصاعدة ونازلة، وقد تغيرت المعالم تمامًا لدرجة أنه لم يعرفها إلا بعد وقت طويل، فلما تأكد منها، هتف محييًا ودعا لها بالنعيم والسلام.
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
…
بحومانة الدراج فالمتثلم
ديار لها بالرقمتين كأنها
…
مراجع وشم في نواشر معصم
بها العين والأرآم يمشين خلفة
…
وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقفت بها من بعد عشرين حجة
…
فلأيًا عرفت الدار بعد توهم
فلما عرفت الدار قلت لربعها
…
ألا انعم صباحًا أيها الربع واسلم
ثم عاد بالذاكرة إلى الوراء يسترجع ساعة الفراق، فصور الموكب بأن الرحلة بدأت في السحر واتجهوا مباشرة نحو وادي الرس، فاخترقوا بذلك كثيرًا من الأماكن وكم فيها من الأعداء والأصدقاء، وعلى الموكب دلائل النعيم والترف، فقد حليت الهوادج بالأقمشة الحمراء الثمينة، والستائر الرقيقة الغالية، وفرشت الرحال بالأثاث الفاخر، وفي كل مكان نزلوا فيه للراحة تركوا آثارًا من الصوف الأحمر، إلى أن وصلت الظعائن إلى الماء الغزير الصافي
فنزلن آمنات مطمئنات نزول من هو في أهله ووطنه، وكان منظرهن أنيقًا ساحرًا يخلب لب الباحث عن الجمال:
بكرن بكورًا واستحرن بسحرة
…
فهن ووادي الرس كاليد للفم
جعلن القنان عن يمين وحزنه
…
وكم بالقنان من محل ومحرم
وعالين أنماطًا عتاقًا وكله
…
وراد الحواشي لونها لون عندم
ظهرن من السوبان ثم جزعنه
…
على كل قيني قشيب ومفأم
ووركن في السوبان يعلون متنه
…
عليهن دل الناعم المتنعم
فلما وردن الماء زرقا جمامه
…
وضعن عصي الحاضر المتخيم
وفيهن ملهى للطيف ومنظر
…
أنيق لعين الناظر المتوسم
وكأنه حينما وصل إلى هذا المنظر الفتان، سبح به خاطره إلى جمال الخلق وروعة السلوك، وحب الخير والتضحية في سبيل الأمن والاستقرار، فشرع يتحدث عن الساعين في الخير، المحبين للسلام، الداعين إلى الإخاء والصفاء، فأشاد بموقف شخصين عظيمين قاما بعمل جليل، فقال إنهما تحملا ديات القتلى في حرب ضروس، بسببها قطعت الأرحام، وتفرق الأهل وتناحر الإخوان، فأصلحا ما أفسد، وجمعا الشمل، وأقسم بالبيت الحرام إنهما نعم السيدان في جميع الأحوال، وأنهما أصبحا في أعلى الدرجات بين العرب جميعهم، وقال لهما: لقد ضحيتما بكل ما تستطيعان في سبيل السلام وأخرجتما من أموالكما خيرها وأجودها، حتى ملأ البقاع صغيرها وكبيرها بدون أن يكون لكما في الحرب أي اتصال، ولكنه حبكما للخير ورغبتكما في السلام:
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما
…
تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
…
رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينًا لنعم السيدان وجدتما
…
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسًا وذبيان بعدما
…
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعًا
…
بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن
…
بعيدين فيها من عقوق ومأثم
عظيمين في عليا معد هديتما
…
ومن يستبح كنزًا من المجد يعظم
فأصبح يجري فيهم من تلادكم
…
مغانم شتى من إفال مزنم
تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت
…
ينجمها من ليس فيها بمجرم
ينجمها قوم لقوم غرامة
…
ولم يهريقوا بينهم ملء محجم
ثم وجه الكلام إلى الأحلاف المتحاربين قائلًا: هل أقسمتم أن تفعلوا ما لا ينبغي؟
لا تظهروا الصلح، وفي نيتكم الغدر؛ لأن الله سيدخره لكم ويحاسبكم عليه، إن عاجلًا أو آجلًا وليست الحرب إلا ما علمتموها عن خبرة وتجربة، فقد ذقتموها واكتويتم بنارها، فإذا أثرتموها تأججت وطحنتكم طحن الرحا، ولن تخلف لكم إلا المحن والمصائب والآلام:
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
…
وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في صدوركم
…
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
…
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
…
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
…
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثقالها
…
وتلقحْ كشافًا ثم تنتجْ فتتئم
فتغللْ لكم ما لا تغل لأهلها
…
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
ثم قال: إنما نريد الصلح بين قوم كثيري العدد، إذا ائتمروا أمرًا كان عصمة للناس وهم كرام أقوياء، لا ينال الموتور وتره منهم، ولا يسلم من ارتكب في حقهم جريمة، وتركوا الحرب مرة، ثم رجعوا فحاربوا، فدبت المنايا فيهم، وكانت العاقبة وخيمة، وقد جنى أحدهم جناية فجر إليهم ما لا ينبغي، إذ أضمر في نفسه فعلة، فلم يظهرها، ولم يترك تنفيذها، وفعل ما أراد، لا لقصد إثارة العامة ولكن للأخذ بالثأر، من بطل عظيم، قومه يستحقون أحسن الثناء وأعظم التقدير:
لحي حلال يعصم الناس أمرهم
…
إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلا ذو الظعن يدرك تبله
…
ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
رعوا ما رعوا من ظمئهم ثم أوردوا
…
غمارًا تفرى بالسلاح وبالدم
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا
…
إلى كلأ مستوبل متوخم
لعمري لنعم الحي جر عليهم
…
بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوى كشحًا على مستكنة
…
فلا هو أبداها ولم يتجمجم
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي
…
عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد ولم ينظر بيوتًا كثيرة
…
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
…
له لبد أظفاره لم تقلم
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه
…
سريعًا وإن لم يبد بالظلم يظلم
وكأنما خشي الشاعر أن تطل الفتنة برأسها من جديد، فذكر المتحاربين مرة ثانية بأن الذين تحملوا ديات القتلى لم يرتكبوا فيها أية جناية، وإنما تبرعوا بأموالهم حبًّا في السلام ورغبة في الصلح، فدفعوا ديات جميع من طلبت لهم ديات، ومنهم من لم يقتل في الحرب، وقدموا عن طيب خاطر ألوف الإبل أفواجًا بعد أفواج.
لعمرك ما جرت عليهم رماحهم
…
دم ابن نهيك أو قتيل المثلم
ولا شاركت في الحرب في دم نوفل
…
ولا وهب فيها ولا ابن المخزم
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه
…
علالة ألف بعد ألف مصتم
ثم أراد أن يتم المشروع بنجاح عظيم، وينفذ تنفيذًا صحيحًا كاملًا عن رضًا تام واقتناع حقيقي من جميع الأطراف، فساق لهم حكمًا تساعد على ذلك، فيها: أن من يرفض الصلح فسوف يكتوي بنار الحرب، والموفون بالعهود محمودون مكرمون، والميالون للخير يحبون السلام، والحذر لا ينجي من القدر، والبخيل بالفضل على أهله منبوذ ومذموم، ومهين نفسه مهان، ولا عز للمرء إلا بقومه، والضعيف مأكول، والقوي مهاب، وتارك المجاملة للناس في أكثر الأمور يصاب بما يكره. وصانع المعروف حفاظًا على الشرف مصون العرض. محفوظ الكرامة والجزاء من جنس العمل:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
…
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن يوف لا يذمم ومن يفض قلبه
…
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
…
ولو رام أسباب السماء بسلم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
…
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يغترب يحسب عدوًا صديقه
…
ومن لا يكرم نفسه لم يكرم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
…
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
…
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
…
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ثم ختم قصيدته بأن ما قاله إنما هو من واقع تجاربه وخبرته بالحياة. فقد حلب الدهر شطره، وعرك الحياة وعركته، وعرف خيرها وشرها، وخير للمرء أن يفيد من تجارب السابقين، ويجعل من أيام حياته هدوءًا وأمنًا بكل ما يستطيع، فالموت يأتي بغتة فمن مات فلن يعود، ومن عاش فإلى حين وإن عمر وهرم، وكل ما خفي يظهر، ولا مجهول إلا المستقبل:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
…
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غد عم
هذه معلقة زهير بن أبي سلمى، وكأنها رمز إلى ميل النفس وارتياحها لكل مظاهر الأمن والسلام، فهي تصوير لروح خيرة، خبرت الحياة، فأحبت السلام، وعظمت أهل السلام، ودعت إلى السلام مهما تغيرت الظروف والأحوال، فمن طبيعة الحياة التقلب والتغير، ولكن لا متعة في الحياة إلا بالسلام العادل الصحيح، وليكن السلام من حق كل من في الوجود من الإنسان إلى الجماد، فالشاعر يرى الديار وما آلت إليه، وقد سكنتها الوحوش في أمن واستقرار، فيدعو للربع بالسلام، ويتابع الظعائن حتى يصلن إلى مكان يصلح للإقامة في أمن وسلام، والساعون في الصلح كرام عظماء لتضحيتهم في سبيل السلام، والمتحاربون عليهم أن يثوبوا إلى رشدهم، ويفتحوا عيونهم على ما نزل بهم ويقف كل منهم عند حده، فيعرفوا أن لا قيمة للحياة إلا بالسلام في ظل العدل والمبادئ القويمة.