الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشهامة والبطولة والجود، فإن من عدا هؤلاء الثلاثة كانوا يسيرون سيرًا طبيعيًا في المدح من الاعتراف بالفضل والثناء عليه. أما النابغة والأعشى فكانا يبالغان مبالغة ظاهرة في مدائحهما، فمثلًا كان الممدوح كالأسد، ثم يخلع على هذا الأسد من الأوصاف ما شاء الخيال، وأحيانا كان الواحد منهما يسترسل في وصف هذا الأسد حتى إن السامع قد يظن أن الشاعر يتحدث عن أسد حقيقي خاص، أو أن الممدوح يلبس درعين، ويحمل سيفين، وغاراته لا تنقطع، ما ينتهي من واحدة إلا ويدخل في أخرى. وهو يشنها في أوقات الشدة. ويصل الشتاء بالربيع في الغارات، وينهك خيله حتى إنها لترمي أفلاءها في الطريق، ونصره في حروبه مؤكد حتى إن الطير لتتبعهم واثقة من الرزق الواسع المضمون بقتل الأعداء.
ولعل هذه المبالغات لا تكون عجيبة، فللمال أثره الذي لا ينكر في دفع الإنسان إلى محاولة إظهار البراعة في التفكير. والاتساع في الخيال.
وفي المدح الذي يقال طمعًا في هدية، أو تحقيق رغبة نجد التملق ظاهرًا واضحًا، كقصيدة علقمة التى مدح بها الحرث بن جبلة الغساني طمعًا في إطلاق سراح أخيه. وقصيدة النابغة الذبياني التي مدح بها النعمان بن وائل بن الجلاح لإطلاق سراح عقرب بنت النابغة، وقصائده التي يمدح بها النعمان بن المنذر. وعمرو بن الحارث الغساني.
وكان للفضائل الخلقية حيز كبير في شعر المدح، فمدحوا بعدم الاعتداء على الأقارب واللاجئين، والزهد في الغنائم، وتوزيعها على الفقراء. والسعي في الصلح بين المتخاصمين. وبذل الأموال رغبة في أن يسود السلام، وإجابة المستغيث، وتأمين الخائف، والوفاء بالعهد، وعدم التنكيل بالعدو، وعدم إهانة الأسير، وإطلاق سراحه بدون فدية لا خوفًا من عقاب، ولا طمعًا في ثواب.
الرثاء:
وكان الحزن يبدو عليهم واضحًا حينما يفقدون عزيزا -وكل أفراد العشيرة عزيز- فتتحرك الشاعرية، وتعبر عن الأسى العميق الذي عمهم والخسارة الفادحة التي نزلت بهم وبغيرهم ممن كان الفقيد ملاذًا لهم. من ذلك، ما ورد لسعدى بنت الشمردل الجهنية في رثاء أخيها.
أسعد الذي قتلته بهز من بني سليم بن منصور، إذ تقول313:
فلتبك أسعد فتية بسباسب
…
أقووا وأصبح زادهم يتمزع314
جاد ابن مجدعة الكمي بنفسه
…
ولقد يرى أن المكر لأشنع315
ويلمه رجلا يليذ بظهره
…
إبلا، ونسال الفيافي أروع316
يرد المياه حضيرة ونفيضة
…
ورد القطاة إذا اسمأل التبع317
وبه إلى أخرى الصحاب تلفت
…
وبه إلى المكروب جري زعزع318
ويكبر القدح العنود ويعتلي
…
بألى الصحاب إذا أصات الوعوع319
سباق عادية وهادي سرية
…
ومقاتل بطل وداع مسقع320
ذهبت به بهز فأصبح جدها
…
يعلو، وأصبح جد قومي يخشع321
أجعلت أسعد للرماح دريئة
…
هبلتك أمك أي جرد ترقع322
313 الأصمعيات، ص 102، ب:11-29
314 أسعد: أخوها. سباسب: جمع سبسب وهي المفازة. أقووا: نزلوا القواء وهي القفر، أو نفد زادهم يتمزع: ينقسم.
315 ابن مجدعة: هو أخوها أسعد، والظاهر أنه أخوها لأمها. الكمي: الشجاع. المكر: مصدر ميمي من الكر. أشنع: تفضيل قصد به الوصف أي شنيع.
316 يليذ: يحمي ويمنع. نسال من نسل ينسل أي أسرع. أروع: رجل كريم ذو جسم وفضل وسؤدد وجمال.
317 الحضيرة: النفر يغزى بهم، العشرة فمن دونهم. النفيضة: الطليعة تتقدم الجيش فتنظم الطريق وتعرف ما فيه. ونصبًا على الحال. أي كافيا عن حضيرة ونفيضة، أو نصبا على نزع الخافض. اسمأل: تقلص وضمر. التبع: الظل، لأنه يتبع الشمس. واسمئلاله: بلوغه نصف النهار.
318 أخرى الصحاب: أواخرهم. زعرع: شديد.
319 القدح: من أقداح الميسر. العنود: الذي يخرج سريعًا معترضا من بين القداح، أو هو الذي يخرج فائزًا على غير جهة سائر القداح. يعتلي: يرتفع. ألى الصحاب: أوائلهم، أصلها "أولى الصحاب" يقابل في البيت السابق "أخرى الصحاب" فخفف بحذف الواو. أصات: نادى، يعني من الفزع. الوعوع: الجبان.
320 العادية: الخيل تعدو. سرية: السرى وهو السير بالليل أي يهدي السارين ليلا. أو سرية "بالباء الموحدة" وهي الجماعة ينسلون من العسكر فيغيرون ويرجعون، أو الجماعة من الخيل ما بين العشرين إلى الثلاثين. مسقع: مصقع وهو البليغ.
321 الجد: الحظ والعظمة. يخشع: يخضع ويذل.
322 الدريئة: الحلقة التي يتعلم الرامي الطعن والرمي عليها. هبلتك أمك: ثكلتك. جرد: ثوب خلق، تريد أنه جنى بقتله أخاها جناية لا يدري ما وراءها، وفتق فتقًا يعجز عن إصلاحه.
يا مطعم الركب الجياع إذا هم
…
حثوا المطي إلى العلا وتسرعوا
وتجاهدوا سيرا فبعض مطيهم
…
حسرى مخلفة وبعض ظلع323
جواب أودية بغير صحابة
…
كشاف داوي الظلام مشيع324
إن تأته بعد الهدوء لحاجة
…
تدعو يجبك لها نجيب أروع325
متحلب الكفين أميث بارع
…
أنف طوال الساعدين سميدع326
سمح إذا ما الشول حارد رسلها
…
واستروح المرق النساء الجوع327
فوددت لو قبلت بأسعد فدية
…
مما يضن به المصاب الموجع
وهي بعد التعبير عن حزنها العميق لفقدها أخاها تبكي صفاته وأخلاقه وعاداته، وكلها من المثل العليا التي كان العربي الجاهلي يعتز بها.
وكان الأسى يثير الشجون عندما تهيج ذكريات من فقدتهم القبيلة، فيرثي الشاعر حينئذ هؤلاء الأبطال الكرام من قومه. ومن أمثلة ذلك ما جاء لأبي دؤاد الإيادي إذ يقول328:
لا أعد الإقتار عدمًا ولكن
…
فقد من قد رزئته الإعدام329
من رجال من الأقارب فادوا
…
من حذاق هم الرءوس العظام330
فهم للملائمين أناة
…
وعرام إذا يراد العرام331
323 تجاهدوا سيرًا: اشتدوا في السير وأجهد كل منهم نفسه فيه. حسرى: معيبة. مخلفة: متروكة لتموت في الطريق. ظلع: جمع ظالع أو ظالعة: من الظلع. وهو العرج والغمز في المشي.
324 مشيع: شجاع؛ لأن قلبه لا يجعله يضعف أو يجبن، فكأنه يشيعه ويقويه.
325 نجيب: كريم أصيل. أروع: سيد فاضل.
326 متحلب الكفين: جواد، تسيل يداه بالعطاء. أميث: لين سهل، يعنى سمح العطاء. أنف: أبي يكره أن يضام. طوال: طويل شديد الطول. السميدع: الكريم السيد الجميل الجسيم الموطأ الأكناف.
327 سمح: جواد. الشول: الإبل التي شولت ألبانها أي ارتفعت. رسلها: لبنها، حارد: انقطع. استروح: تشمم. تعني أنه جواد كريم في وقت الجدب والأزمة.
328 الأصمعيات: ص187 ب:15-24
329 الإقتار: قلة الماء وضيق العيش. العدم والإعدام: الفقر.
330 فادوا: ماتوا. يقال: فاد يفيد فيدًا. إذا مات، حذاق: قبيلة من إياد. العظام: الكبار.
331 الملائمون: الموافقون المخلصون. أناة: تأن ورفق وحلم، وصف بالمصدر. العرام: الشدة والقوة والشراسة.
وسماح لدى السنين إذا ما
…
قحط القطر، واستقل الرهام332
ورجال أبوهم وأبي عمـ
…
ـرو وكعب، بيض الوجوه حسام333
وشباب كأنهم أُسْد غيل
…
خالطت فرط حدهم أحلام334
وكهول بنى لهم أولوهم
…
مأثرات يهابها الأقوام335
سلط الدهر، والمنون عليهم
…
فلهم في صدى المقابر هام336
وكذا كم مصير كل أناس
…
سوف، حقًّا تبليهم الأيام
فعلى إثرهم تساقط نفسي
…
حسرات وذكرات لي سقام
وكان عبد يغوث بن الحرث قائد قومه يوم الكلاب الثاني، فأسر وأراد أن يفدي نفسه، فأبت تميم إلا أن تقتله بالنعمان بن جساس، ولما لم يجد بدًّا من القتل طلب إليهم أن يطلقوا لسانه ليذم أصحابه، وينوح على نفسه، وأن يقتلوه قتلة كريمة، فأجابوه إلى طلبه، وسقوه الخمر، وقطعوا له عرقًا يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات، وحين جهز للقتل قال قصيدة تحدث فيها عن نفسه بأشياء كثيرة، من بينها فخره بشجاعته وكرمه وبراعته في الطعن والقتال، ومنها337:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
…
فما لكما في اللوم خير ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها
…
قليل، وما لومي أخي من شماليا338
فيا راكبا إما عرضت فبلغن
…
نداماي من نجران أن لا تلاقيا.
332 استقل: ارتحل. الرهام: الأمطار الضعيفة. الواحدة رهمة "بكسر الراء". يقصد القحط وامتناع المطر.
333 بيض الوجوه: أشراف كرام. حسام: أبطال شجعان، قولهم فاصل.
334 غيل: أجمة، وهي الشجر الكثيف الملتف. الحد: الحدة والغضب. وفرطها: غلبتها وإسرافها. أي فيهم مع الغضب والحدة، عقول راجحة، وآراء سديدة.
335 كهول: شيوخ، جمع كهل. أولوهم: السابقون الأوائل منهم. يهابها: لا يصل إليها.
336 الهام: جمع هامة، وكانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه، تصير هامة فتطير، ويسمونه الصدى، فنفاه الإسلام. ونهاهم عنه.
337 المفضليات: ص315
338 الشمال: واحد الشمائل.
أبا كرب والأيهمين كليهما
…
وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا339
جزى الله قومي بالكلاب ملامة
…
صريحهم والآخرين المواليا340
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة
…
ترى خلفها الحو الجياد تواليا341
ولكنني أحمي ذمار أبيكم
…
وكان الرماح يختطفن المحاميا 242
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدًا
…
وإن تطلقوني تحربوني بماليا343
أحقا عباد الله أن لست سامعًا
…
نشيد الرعاء المعزبين المتاليا344
وقد علمت عرسي مليكة أنني
…
أنا الليث معدوًّا عليه وعاديا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل الـ
…
ـمطي وأمضي حيث لا حي ماضيا
وأنحر للشرب الكرام مطيتي
…
وأصدع بين القينتين ردائيا346
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا
…
لبيقا بتصريف القناة بنانيا347
وعادية سوم الجراد وزعتها
…
بكفي وقد انحوا إليَّ العواليا348
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
…
لخيلي كري نفِّسي عن رجاليا.
وقال دريد بن الصمة في كثرة القتلى من قومه349:
339 أبو كرب، هو بشر بن علقمة بن الحرث. والأيهمان: هما الأسود بن علقمة بن الحرث، والعاقب وهو عبد المسيح بن الأبيض.
340 صريحهم: خالصهم ومحضهم في النسب. الموالي هنا: الحلفاء.
341 النهدة: المرتفعة الخلق. الأحوى من الخيل: ما ضرب لونه إلى الخضرة.
342 الذمار: ما يجب على الرجل حفظه وحمايته.
343 حربه يحربه من باب طلب: أخذ ماله وتركه بلا شيء.
344 الرعاء: جمع راعٍ. المعزب: المتنحي بإبله. المتالي: الإبل التي نتج بعضها وبقي بعض.
345 عبشمية: نسبة إلى عبد شمس.
346 الشرب: جمع شارب: المطية هنا: البعير. أصدع: أشق. القينة: المغنية، يريد أن يعطي كلا منهما شطر ردائه.
347 شمص: نفر. اللبيق: الحانق الظريف.
348 العادية: الخيل المغيرة. سوم الجراد: انتشاره في طلب المرعى، يريد أن الخيل كالجراد في كثرتها. وزعتها: كفتتها. أنحوا إليَّ: وجهوا إليًّ.
349 ديوان الحماسة: جـ1 ص340.
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى
…
مكان البكا لكن بنيت على الصبر350
فقلت أعبد الله أبكى أم الذي
…
له الجدث الأعلى قتيل أبي بكر351
وعبد يغوث تحجل الطير حوله
…
وعز المصاب حثو قبر على قبر352
أبى القتل إلا آل صمة أنهم
…
أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر353
فإما ترينا لا تزال دماؤنا
…
لدى واتر يسعى بها آخر الدهر354
فإنا للحم السيف غير نكيرة
…
ونلحمه حينًا وليس بذي نكر355
يغار علينا واترين فيشتفى
…
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر356
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
…
فما ينقضي إلا ونحن على شطر357
وقال دريد بين الصمة يرثي أخاه:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسًا
…
فقلت أعبد الله ذلكم الردي358
فجئت إليه والرماح تنوشه
…
كوقع الصياصي في النسيج الممدد359
350 مكان البكا: بيان لاستحقاق أخيه أن يبكيى عليه، أي هذا محل البكاء على أخيى
351 الجدث: القبر الأعلى: الأشرف.
352 عبد يغوث: هو اسم أخيه، وقتلته بنو مرة. حجل الطير: نزا في مشيه. المصاب: المصيبة، وحثو: بدل منه. والمعنى: لقد تتابعت المصائب فهي كحثو قبر على قبر، فماذا ينفع البكاء.
353 آل صمة: أولاده. وكان لدريد إخوة كلهم قد قتل. والقدر يجري
…
إلخ: معناه أنهم قدروا للقتل، كذلك القتل قدر لهم.
354 الواتر: هو الذي قتل له قتيل، وهو يسعى في ثأره.
355 يقصد: فإما ترى أنا لا تزال دماؤنا أبد الدهر عند واترين يسعون بها، فإنا نخاطر بأرواحنا. فنقتل ونقتل، وليس ذلك بمنكر فينا ومنا.
356 المعنى أن أعدائنا إما أن يغيروا علينا طالبين ثأرهم عندنا فيصيبون منا ما يشتفون به، وإما أن نغير عليهم لنأخذ بثأرنا، يريد أنا دأبنا ذلك.
357 يريد أننا قسمنا الدهر قسمين: نغير على الأعداء وننتصر، أو يغيرون علينا ليأخذوا بثأرهم.
358 ديوان الحماسة جـ1 ص 337.
359 قالوا: أهلك راكبوا الخيل فلانا الفارس فقلت: أعبد الله أخي ذلك المقتول. قال ذلك إنكارا لقتله واستعظاما؛ لأنه يعلم إقدامه وشجاعته في الحرب، تنوشه: تتناوله، والصياصي: جمع صيصة وهي شوكة يمررها الحائك على الثوب وقت نسجه.
النسيج المنسوج- والمعنى أتيت عبد الله والحال أن الرماح تتناوله ولها صوت كصوت شوكة الحائك في الثوب الذي ينسجه.
وكنت كذات البو ريعت فأقبلتْ
…
إلى جلد من مسك سقب مقدد360
فطاعنت عنه الخيل حتى تنفست
…
وحتى علاني حالك اللون أسودي361
قتال امرئ آسى أخاه بنفسه
…
ويعلم أن المرء غير مخلد362
فإن يك عبد الله خلى مكانه
…
فما كان وقافًا ولا طائش اليد363
كميش الإزار خارج نصف ساقه
…
بعيد من الآفات طلاع أنجد364
قليل التشكي للمصيبات حافظ
…
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد365
تراه خميص البطن والزاد حاضر
…
عتيد ويعدو في القميص المقدد366
وأن مسه الإقواء والجهد زاده
…
سماحًا وإتلافًا لما كان في اليد367
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
…
فلما علاه قال للباطل ابعد368
360 ذات البو: الناقة التي يموت لدها فيسلخ جلده ويحشى تبنًا لتحن عليه فتدر اللبن. وراعه: أفزعه وخوفه. والجلد: ما جلد من المسلوخ وألبس غيره لتشمه أم المسلوخ فتدر عليه، والمسك: الجلد. والسقب: ولد الناقة - والمعنى فصرت في الفزع والخوف. كذات البو: التي فزعت على ولدها فأقبلت إلى جلده الموضوع على غيره لتشمه.
361 تنفست: تكشفت. والحالك: الأسود. وأسودي: أصله أسودي بياء النسب مشددة فخفف بحذف إحدى الياءين- والمعنى فضابت الفرسان حتى انكشفوا عنه وتلوثت بدمائهم ومن شدتها تغير لوني بالسواد.
362 قتال منصوب على المصدرية وآساه سواه بنفسه- والمعنى أني لم أقصر في دفاعي عنه ولم أرهب الموت لعلمي أن الإنسان لا يخلد.
363 خلى مكانه: مضى لسبيله. والوقاف: الذي يقف مخافة وجبنًا ولا يقدم. والطائش: الذي لا يصيب.
364 كميش الإزار: مثل في الجد والتشمير، والكميش الخفيف السريع وأضاف الكميش إلى الإزار توسعًا. وقوله خارج نصف ساقه: يصفه أيضًا بالجد والنشاط. وقوله بعيد من الآفات: يريد أنه سليم الأعضاء لا داء به - والمعنى أنه إذا أراد أمرًا جد فيه وشمر له، وكان مع هذا سالمًا من الأمراض جادًّا في الأمور الشريفة.
365 يريد بقوله قليل التشكي: في أنواع التشكي كلها لأنهم يستعملون القلة في معنى النفي والتشكي الشكاية- والمعنى أنه كان على الهمة قوي الفكرة صبورًا على حوادث الدهر بصيرًا بالعواقب يعلم في يومه ما يكون في غده فيسعى في دفعه.
366 خميص البطن: خاليها. والعتيد: المعد. والمقدد: الممزق- والمعنى أنه كان كريمًا بالغ النهاية في الكرم يؤثر غيره على نفسه بزاده وملبسه يصفه بقلة الأكل مع اتساع الحال وحضور الزاد.
367 الإقواء: الفقر. والسماح: السماحة، الجود الكرم- والمعنى أنه إذا ضاقت به الدنيا لا يقصر في الكرم وفي بذل ما في يده.
368 صبا: الأول من الميل والثاني من الصباء وهو حداثة السن- والمعنى أنه مال إلى اللهو مدة صغر سنه فلما شاب ترك الملاهي.
وقال النابغة الذبياني يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني369.
فلا يهنئ الأعداء مصرع ملكهم
…
وما عنقت منه تميم ووائل370
وكان لهم ربعية يحذرونها
…
إذا خضخضت ماء السماء القبائل371
يسير بها النعمان تغلي قدوره
…
تجيش بأسباب المنايا المراجل
يقول رجال يجلهون خليقتي
…
لعل زيادا لا أبا لك غافل372
أبي غفلة أني إذا ما ذكرته
…
تحرك داء في فؤادي داخل
وإن تلادي إن ذكرت وشكًّتي
…
ومهري وما ضمت إلي الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنها
…
هجان المها تحدى عليها الرحائل373
فإن كنت قد ودعت غير مذمم
…
أَواسي ملك ثبتتها الأوائل374
فلا تبعدن إن المنية منهل
…
وكل امرئ يوما به الحال زائل
فما كان بين الخير لو جاء سالمًا
…
أبو حجر إلا ليال قلائل375
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت
…
فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مصلوه بعين جلية
…
وغودر بالجولان حزم ونائل376
369 ديوانه ص82.
370 عنقت: نجت، وذلك أنه كان يغزوهم فنجوا بموته، ويجوز أن يكون المقصود دعاء عليهم، أي لا هنأهم الله بموته ولا نجوا بعده.
371 ربيعة: غزوة الربيع، خضخضت: أى حركت الماء باستقائها منه بالدلاء وغير ذلك من آلات الماء.
372 زياد: اسم النابغة الذبياني.
373 حباؤك: هديتك. العيس: الإبل البيض. هجان المها: بيضها. تحدى: تساق: الرحائل: جمع رحالة، وهي السرج.
374 ودعت: فارقت. أواسي: جمع آسية وهي السارية والدعامة. يقول: إن كنت قد فارقت هذا الملك الذي كان آباؤك أورثوك إياه. فلم تفارقه وأنت مذموم، بل فارقته وأنت محمود ويتفجع عليك.
375 أبو حجر: كنية النعمان بن الحارث. يقول: لو سلم من الموت لكان الخير كله يقرب علينا ويجيء إلينا بمجيئه.
376 آب: رجع. المصلون: أصحاب الصلاة وهم الرهبان وأهل الدين. أو هم الذين أكدوا خبر موته، أخذًا من السابق والمصلى، فالسابق الذي يأتي أولا، والمصلى الذي يجيء بعده، فكان من أخبر بموته أولا لم يصدق إلى أن جاء اللاحق فأكد موته. بعين جلية: أي بخبر يؤكد موته. ويقصد بالشطر الثاني أنه دفن بالجولان، فكأن في القبر رجل كان حازمًا في أموره، ويعطي قاصده.
سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم
…
بغيث من الوسمي قطر ووابل377
ولا زال ريحان ومسك وعنبر
…
على منتهاه ديمة ثم هاطل
وينبت حوذانًا وعوفًا منورًا
…
سأتبعه من خير ما قال قائل378
بكى حارث الجولان من فقد ربه
…
وحوران منه موحش متضائل
قعودًا له غسان يرجون أوبه
…
وترك ورهط الأعجمين ووائل
فالنابغة هنا يذكر الفقيد بالفضل ويعترف له بالجميل ويدعو له بالخير، فتحدث عن أمجاده وشجاعته وبطشه بالأعداء، وأقر له بالأفضال الكثيرة التي أسبغها على الشاعر، فقال: إن أمواله وأسلحته وخيله وكل ما يملكه، هي من عطايا الفقيد، وأنه لو سلم من الموت لعم خيره وفضله جميع الناس، فكانت حياته حياة للآخرين وسعادة لهم، وبموته تصبح الحياة لا خير فيها. ولئن كان قد مات عن ملك ورثه عن آبائه، فلقد ذهب محمودًا مرضيًّا عنه من الجميع، وقد بكاه الناس، وأصبحت الدنيا موحشة بعده، وختم الحديث بالدعاء للمكان الذي دفن فيه بدوام الخصب وطيب الثرى.
ويتضح من شعر الرثاء أنه كان يتضمن الحديث عن مناقب الفقيد، وما كان يتحلى به من البطولة والشهامة والكرم والجود وما سجله من مآثر خالدات، ثم وصف مشاعر القوم نحو فقده.
ويلاحظ أن رثاء المقتول في الأخذ بالثأر كان أشد وأقوى من رثاء غيره، كأن شعور القوم نحوه أنه صد الخطر عنهم بنفسه، ففضله لا ينسى، ويستحق أن يخلد. وكثيرًا ما كان الشعراء في هذا المقام يقارنون بين القتيل الأول ومن قتل في الأخذ بثأر هذا القتيل، وكانوا بطبيعة الحال يفضلون الثاني على الأول. من ذلك مثلًا ما قاله عنترة العبسي حين قتلت بنو العشراء من مازن قرواشًا العبسي. وكان قرواش قتل حذيفة بن بدر الفزاري، فلما أسرته بنو مازن قتلته بحذيفة، فقال عنترة العبسي في ذلك 379.
377 بصرى وجاسم موضعان من الشام. الوسمي: أول المطر. وكانت العرب تدعو للقبور بالسقيا ليكثر الخصب حولها، فكل من مر دعا لها بالرحمة.
378 الحوذن والعوف: نباتان عطريان إلا أن الحوذ أطيب رائحة. ويقصد بالشطر الثاني أنه سيثني عليه بخير القول، ويذكره بأحسن الذكر.
379 العقد الثمين: ديوان عنترة، ص 37، قصيدة رقم9.
هديكم خير، أبا من أبيكم
…
أعف، وأوفى بالجوار، وأحمد
وأطعن في الهيجا إذا الخيل صدها
…
غداة الصباح السمهري المقصد
وكثيرًا ما يجمع الشاعر في قصيدته رثاء لأكثر من شخص واحد. فيعدد أسماء الذين قتلوا من قومه. وإن لم يكونوا قد قتلوا كلهم في معركة واحدة380. وهذا يوحي بأن ذكرى الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الشرف والكرامة ما كانت لتغيب عنهم، بل كانت دائمًا ماثلة أمامهم، وحاضرة في مخيلتهم. ويتحينون الفرص الملائمة للحديث عنها والإشادة بها.
وهكذا نرى في شعر الرثاء، أن الشعراء كانوا يذكرون ما كان لهؤلاء الذين فقدوا من صفات عالية، وأخلاق كريمة، ومفاخر عظيمة، وأعمال جليلة، ويشيدون بما كان لهم من مودة ووفاء مع الأصدقاء، وشدة وبأس مع الأعداء، وجود وسخاء في أوقات الشدة والجدب، وقوة تثير الرعب والهلع، وعقول واسعة، وآراء سديدة. وما لهم من آثار لا تنسى، وهذه المعاني -سواء في الرثاء الفردي أو الجماعي- هي مما كان يتردد في أشعار الفخر والمدح.
وبالموازنة بين الأشعار التي جاءت في الأغراض الثلاثة. الفخر والمدح والرثاء يتبين ما يأتي:
تشترك الأغراض الثلاثة في تمجيد الشجاعة، والحزم والاتزان، والإباء. والدفاع عن الحمى والشرف، وتأمين الخائف، وإجابة المستغيث. والوفاء بالعهد، والخبرة بالحرب والقتال. والجود والسخاء والتضحية ومد يد العون للمحتاجين.
وبما أن الفخر والمدح يكونان لأشخاص أحياء، بعكس الرثاء فهو لميت، فقد أكثر الشعراء في الأولين من ترديد الصفات التي توحي بالقوة وتبعث الرهبة والخوف في قلوب الأعداء، كتمام الاستعداد، وكمال القوة الحربية، وواسع الخبرة الحربية، وجودة الخيل والأسلحة التي يملكها المفتخرون والممدوحون. والإكثار من الغارات. أما في الرثاء فقد اهتموا بالصفات التي تصور القتيل بأنه كان بطلًا عظيمًا: ملاذًا لقومه، وملجأً للمضطرين.
380 راجع في ذلك مثلًا: قصيدة طفيل الغنوي، ص17، قصيدة رقم2. وقصيدة دريد بن الصمة: الحماسة جـ1 ص430.
ولا نظير له بحيث لا يوفي به قتيل. ولعل ذلك كان لاستثارة شعور القوم للأخذ بثأره عن طريق غير مباشر.
وكل المعاني التي قيلت في الفخر، قيلت كذلك في المدح، إلا أن المداحين المحترفين زادوا عليها. ووسعوا فيها: فشن الغارات وقيادتها زيد عليه بأن جعلت الغارات كل عام، وتشن في زمن الشدة. ويطول زمنها، فيوصل الشتاء بالربيع، ويمتد خطرها فتوغل في الجهات النائية حتى تستولي على إبل العزاب، وغنائمها كثيرة، يعم خيرها حتى تجعل الفقراء المعدمين من ذوي الثراء العريض، والخيل في الغارات لا تبذل مجهودًا كبيرًا فحسب، بل تنهك قواها. فتغزو سمانا، ثم تعود خوص العيون، هزيلة تلقى أفلاءها في الطريق، والبطل الممدوح ليس شجاعًا فقط، أو كالليث العادي، بل ليث صفته كذا وكذا، وجيوش الممدوحين ليست قوية فقط، بل نصرها محقق مؤكد، وأسلحتهم ليست حادة فحسب: بل ذت تاريخ مجيد، تغوص في اللحم. وتقطع العظام، وتكسر الجماجم، وتتعدى الأجسام إلى الصخور فتفتتها، وتطير منها الشرر، فالمبالغة لدى محترفي المدح ظاهرة واضحة.
ليس هناك فرق كبير بين المدح والفخر في شعر القوم الذين لم يتخصصوا في المدح، فشعرهم في الحالتين يكاد يكون واحدًا لولا أن الفخر إشادة بفضائل النفس. والمدح تمجيد لفضائل الآخرين. فشعر هؤلاء في هاتين الناحيتين عادي. بل إننا نلمس أن شعرهم في المدح قد يقل في المستوى عن شعرهم في الفخر، فإذا رجعنا مثلًا إلى قصيدة عامر بن الطفيل التي يمدح فيها بني الحرث بن كعب نجد أن مستواها أقل من مستوى شعره في الفخر.
أما الذين تخصصوا في المدح، فالحال عندهم مختلفة، يرتفع مستوى مدحهم عن مستوى فخرهم. فهم في المدح يولدون الأفكار، ويبالغون ويتأنقون في طريقة العرض. وباعهم في الفخر، على العموم، قصير، وليس لهم فيه إلا أبيات قليلة. في حين أننا نجد دواوينهم تكاد تغص بشعر المدح: على أن ما ورد لهم من شعر في الفخر، يقل في مستواه عن مستوى الفخر لدى غيرهم من الشعراء. وهذا يدلنا على أن الخبرة وكثرة المران في ناحية معينة، لهما أثر كبير في تقوية الموهبة في هذه الناحية. هذا، ولا يغيب عن خاطرنا أثر المنح والمكافآت في شحذ العقل وإعمال التفكير.
ولكن أليس الوازع القبلي يفوق الوازع المادي أو يعادله على الأقل؟