الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا حتى يغيب الموكب عن ناظريه، وقلبه في تلك الحالة يكاد ينخلع، بل إنه انخلع فعلًا، ورحل مع حياة النفس، وروح الفؤاد.
فإذا ما صار أمره إلى تلك الحال، انطلق مصورًا جمال الحبيبة التي ملكت القلب، فخلع عليها من آيات الحسن والبهاء، ما يصورها آلهة الجمال، وقد قيل في تعليل هذه الظاهرة إنها كانت لتهيئة النفوس للاستماع باهتمام إلى ما يريد الشاعر عرضه بعد. فتقبل عليه بروح عالية، وصدور منشرحة.
وبعد الانتهاء من الافتتاحية المختارة، ينتقل الشاعر إلى غرض آخر قد يكون الوصف، وقد يكون الفخر، وقد يكون المدح، وقد يكون الهجاء، وقد يجمع بين هذه الأغراض كلها في قصيدة واحدة، ومن ثم نجد القصيدة الواحدة تضم أكثر من موضوع، وتتجلى مهارة الشاعر الفنية في حسن الربط بين هذه الموضوعات، وجودة الانتقال من موضوع لآخر. وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك في تحليل المعلقات.
ونحب هنا أن نذكر بما بيناه سابقًا من أن الشعراء الجاهليين كانوا هم الطبقة المثقفة الذين يتوجهون بحديثهم إلى من هم في مستواهم عقلًا وذكاءً في ذلك العصر، ومن نتاجهم الشعري تستطيع أن نتبين ذكاءهم وقدرتهم الفنية والبلاغية، فكثيرا ما كانوا يستعملون الأساليب البلاغية الراقية، ومن أكثرها شيوعًا لديهم المجاز بالحذف، اعتمادًا على ذكاء السامع وفطنته.
العناية بالألفاظ والعبارات
.
وفي الشعر الجاهلي، نجد أن الشعراء كانوا يهتمون بألفاظهم وعباراتهم، فينتقون ويدققون في اختيار الألفاظ، ويتحرون أن تكون ألفاظًا شعرية تؤدي الغرض المقصود بما تحمل من معاني القوة والتأثير. وتتضح هذه الظاهرة بأجلى معانيها في الحوليات، وهي القصائد التي يقضي أصحابها في إعدادها وقتًا طويلًا قد يقرب من عام؛ ولذلك سميت كل منها بأنها حولية، وأشهر أصحابها زهير والنابغة الذبياني.
والذي يدل على ميل الجاهليين إلى انتقاء الألفاظ وجودة رصفها، ورود ألقاب كثيرة من الشعراء تدل على ذلك، مثل المهلهل، الذي أطلق عليه ذلك -كما يقولون- لأنه هلهل ألفاظ الشعر وأرقها، كما لقبوا المرقش بذلك لتحسينه شعره وتنميقه، وهكذا قالوا في طفيل
الغنوي، وعلقمة الفحل والمثقب، والمتنخل، والنابغة، وإن كانت بعض الروايات تعلل ألقابهم هذه بأنها لكلمات وردت في أشعارهم بهذه الألفاظ.
وفي تأليف الأبيات، وتكوين العبارات، نجدهم كانوا -بوجه عام- يتحرون الدقة في التعبير، فلا يأتون بكلمات زائدة، أو لا لزوم لها. فكانوا يأتون بالألفاظ والعبارات على قدر المعنى المقصود، فلا ينقصون ولا يزيدون، فلم يأت في تعبيرهم -على العموم- حشو، ولا زخارف مصنعة، فالأسلوب في الشعر الجاهلي قوي رصين، كل ما فيه لازم وضروري، لتكميل الصورة، فليس فيها نقص يخله، ولا زيادة تشوهه، أو تقلل من حسن العرض وجمال التصوير.
وقد نجد فيه الآن غرابة في بعض الألفاظ، وليس السبب في ذلك أن الشعراء كانوا يختارون الألفاظ الغريبة، أو غير المستعملة، بل بالعكس كان كل منهم يحاول أن يختار الألفاظ الأدبية المعروفة لدى الجميع، حتى تجري على جميع الألسنة، ويكتسب شهرة ما تنتشر أشعاره، وإنما تبدو هذه الألفاظ بالنسبة لنا غريبة لعدم استعمالنا لها ولطول العهد بيننا وبين الوقت الذي كانت شائعة ومستعملة فيه، ولاختلاف بيئتنا عن بيئتهم التي كانت فيها هذه الألفاظ شائعة الاستعمال، ومفهومة لدى الجميع وكان التعبير بها يعتبر بسيطًا سهلًا.
وتدل الأشعار الجاهلية على غنى الشاعر اللغوي، فيبدو من الشعر الجاهلي بوضوح أن كل شاعر كان لديه ذخيرة لا تنفد من الألفاظ والعبارات اللغوية والشعرية المختارة، وكان في إمكان الواحد منهم أن يأتي بمئات من الألفاظ تتفق كلها في الحرف الأخير منها، وفي النغم الإيقاعي، والجرس الموسيقي، ولعل ذلك هو الذي دفعهم إلى التزام وحدة القافية في جميع القصيدة من أولها إلى أخرها مهما بلغت من الطول.
ولا شك أن مما يدل على مهارة الشاعر العربي اللغوية، واحتفاله بالألفاظ والعبارات في شعره، التزامه وحدة الوزن الشعري في جميع أرجاء القصيدة الواحدة فهذا يضطره إلى اختيار الألفاظ والتراكيب التي ينتج عنها انسجام تام في الترنيم، وتوافق دقيق في الإيقاع، وهذا من ناحية أخرى يدل على ما يتمتع به الشاعر من ثروة لغوية واسعة، تمكنه من اختيار ما يحلو له، ووضعه في مكان يظهر حسنه وجماله.