الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطور الأول من أطوار الاجتهاد في:
عهد الخلفاء الراشدين:
إن مما لا جدال فيه أن مصدر التشريع في عصر النبوة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان موئل الاستفتاء والاستقصاء، فلما لحق بربه عز وجل وانقطع الوحي بذلك انقلبت قيادة الأمة في أمور الدنيا والدين إلى خلفائه الراشدين، وكبار الصحابة فاضطلعوا بهذه المهمة، ونهضوا بأعبائها على خير وجه، كيف لا وقد استفادوا من صحبته صلى الله عليه وسلم وعلوا بعد أن نهلوا من مجالستهم إياه سفرا وحضرا، سلما وحربا ما أكسبهم الذوق التشريعي السليم حين تعرض عليهم الحوادث، فيزنونها بميزان الشرع، ولهذا كان حكمهم أصح من أحكام غيرهم، ذلك بالإضافة إلى ما قد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم تربية تشريعية محكمة يشاهدونه وهو يجتهد في حادثة؛ لأنها تشتمل على وصف كذا، ويرون تطبيقه لأحكام القرآن في غير ما حادثة، والقرآن قد ينزل على سبب فيطبق على سببه وعلى غيره، كل ذلك أكسبهم هذا الذوق وصدق التقدير الشرعي فيما لم ينص على حكمه.
ولقد دفعتهم سرعة الأحداث ومجريات الأمور إلى ولوج باب الاجتهاد والتصدي للفتوى ببصيرتهم النافذة، فلم تمض لحظات على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خطب أبو بكر في الناس يفتيهم في أمرهم، ويوضح لهم ما ينبغي أن تكون عليه الحال بعد أن اختلفت وجهات القوم وكاد يتفاقم الأمر فيما بين المسلمين فكان لكلامه بين الناس الواقع الجميل. وللفتاته على النفس برد وسلام ردهم إليه به من هويات كادت
تعصف بالأمة في أودية من الخلاف، الذي ما إن ينشب بمخلب واحد حتى يمزق الأمة، كما حصل في عهود الخلاف والتفرق.
أولم يكن الصديق رضي الله عنه صاحب الموقف الأول ذلك الموقف الإيجابي البديع حين ترامى إلى مسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بكت على وفاته السماء والأرض، وقال قائلهم: إنه لم يمت. وهدد آخر بقوله: من قال إن محمدا مات فلأفعلن به ولأفعلن. فقال الصديق رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وتلا قوله تعالى رضي الله عنه:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (1).
وما إن استقر أمر الخلافة حتى واجهتهم المهمة الشاقة باتساع الفتوحات، وامتداد نفوذ المسلمين إلى ما وراء الجزيرة إلى مصر والشام وفارس والعراق حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وانضوت أمم وشعوب مختلفة تحت راية الإسلام، ولا بد أن لهذه الشعوب من العادات والأعراف والنظم الاجتماعية والاقتصادية وسائر أمور تعاملهم في الحياة ما هو غريب على عهد المسلمين الذين فتح الله على أيديهم هذه الأمصار والأقاليم.
فتطلب الأمر من المجتهدين البحث عن أحكام شرعية لتلك الأمور حتى يقام منهج الله، وغني عن القول أنه لم ينص على أشخاص الحوادث لا في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة، فكان لزاما عليهم
(1) سورة آل عمران الآية 144
أن يجتهدوا في تطبيق القواعد الكلية المقررة لنص من الكتاب والسنة على أشخاص هذه الحوادث الطارئة عليهم، فبذلوا قصارى جهدهم ووقفوا نشاطهم على استنباط أحكام ما جد من مسائل دون أن يتجاوزوها إلى الافتراضيات.
وكان اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم بمعناه الواسع، فقد نظروا في دلالة النصوص، وقاسوا واستحسنوا إلى غير ذلك من العمل بالأمارات وقرائن الأحوال، إلا أنهم كانوا يطلقون كلمة الرأي على ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب فيما تتعارض فيه الأمارات.
وإذ هم يستعملون الرأي بمعناه الواسع لم يكونوا ليطلقوا على أضرب الاجتهاد مصطلحاته الأصولية التي عرفت فيما بعد، كالاستحسان والمصالح المرسلة، والقياس بأنواعه، وقاعدة سد الذرائع، وعموم البلوى ونحو ذلك.
وقد كان الاجتهاد في هذا العصر- كما أشرنا- مقصورا على استنباط الأحكام لما هو واقع، دون أن يلجئوا إلى الافتراضات، فلم يكونوا يفترضون مسائل لم تقع ثم يبحثون عن حكمها، كما سيأتي فيمن بعدهم.
وقد روي عن بعض الصحابة نهي الناس عن الخوض فيما لم يقع، ومن ذلك ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه كان إذا استفتي في