الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تقتصر أثر الترجمة على العوام، بل كان أكبر أثره على المتجادلين في العقائد، حيث وجد كل منهم سندا لكلامه في استخدام الجدل والمنطق لإفحام خصومه.
وقد انحرف هذا الجدل مما جعله لمجرد الغلبة والانتصار كما يقول الشيخ أبو حامد الإسفرائيني الذي يرويه أبو حيان التوحيدي.
قال التوحيدي: سمعت الشيخ أبا حامد يقول: " لا تعلق كثيرا ما تسمع مني في مجالس الجدل؛ فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته، فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام "(1).
ومثله قول ابن قتيبة حين وصف الجدلي النفعي في زمانه فقال: " كان طالب العلم فيما مضى يسمع ليتعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع، وقد صار الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليذكر، ويحفظ ليغالب ويفخر "(2).
(1) تاريخ هلال الصابي / 4 - 5 حاشية / 1 القاهرة 1337هـ -، 1، 1م.
(2)
اختلاف اللفظ والرد على الجهمية نقلا عن كتاب زبدة بنت الحارث لمحمد قطب / 20. مصر 1399هـ - 1978م.
عصر الجدل والمناظرات:
لعل ما ذكرنا من العوامل يشير إلى أن حركة فكرية واسعة النطاق وعميقة الأثر كانت تظل الفكر الإسلامي في عصر الفقهاء، وأن جو الجدل والمناظرات كان سمة هذا الفكر آنذاك، ولم يكن الهدف من وراء هذا النشاط الفكري إلا خدمة العقيدة الإسلامية، وذلك ببيان حقيقتها والرد على شبهات أهل الأهواء والبدع، ولذا اشترك فيه كل من يعنيه انتصار هذه العقيدة، اشترك فيه المعتزلة وناظروا كثيرا من أهل الأهواء والبدع، بل وألفوا كتبا مستقلة للرد على الملاحدة، ويفتخر المعتزلة بذلك. فالخياط صاحب
الانتصار يقول: " هل على الأرض أحد رد على الدهريين سوى المعتزلة كإبراهيم النظام، وأبي الهذيل ومعمر، والأسواري وأشباههم؟ وهل عرف أحد صحيح التوحيد واحتج لذلك بالحجج الواضحة، وألف فيه الكتب الواضحة، ورد فيه على أصناف الملحدين من الدهريين والثنوية سواهم ".
ولسنا بصدد الحكم على صواب المعتزلة أو خطئهم، ولكنا فقط نشير إلى أن العصر اقتضت طبيعة الفكر فيه نشاطا من هذا الصنف.
وقد خاض الفقهاء غمار هذه الحركة في الرد على الدهرية وغيرهم، فأبو حنيفة يجادل الدهرية ويوجههم إلى ضرورة الإيمان بمنشئ هذا العالم:" ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة، مملوءة بالأمتعة والأحمال، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس فيها ملاح يجريها ويقودها، ولا متعهد يدفعها ويسوقها، هل يجوز ذلك في العقل؟ فقالوا: لا. هذا شيء لا يقبله العقل، ولا يجيزه الوهم. فقال أبو حنيفة رحمه الله: فيا سبحان الله، إذا لم يجز في العقل وجود سفينة مستوية من غير متعهد ولا مجر، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها. وتغير أمورها وأعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ومحدث لها؟ "(1).
وقد ضاع من تراث المسلمين كثير من المناظرات والردود، لكن بعض الكتب الموثقة حفظت لنا صورا من مجادلات بين أهل السنة وبين أهل الجبر أو القدر، وعلى فرض أن ما يحكيه ابن القيم من مناظرة بين سني وجبري، ومناظرة بين سني وقدري، على فرض أنه تصوره هو، فإن الواقع من خلال ما مر من عوامل يشهد بوجود مثل هذه المناظرات، وإن لم تصلنا حرصا من الاتجاه السني على عقيدة المسلمين الحقة وفق منهج القرآن والسنة.
(1) المكي / مناقب أبي حنيفة / 178.
وهذا جزء من مناظرة بين جبري وسني:
- قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد، ولا يستقيم التوحيد إلا به، لأننا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلا للحوادث غير الله مع الله، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا شرك لا يخلص منه إلا القول بالجبر.
وقال السني: بل القول بالجبر مناف للتوحيد، فهو مناف للشرائع ودعوة الرسل والثواب والعقاب، فلو صح الجبر لبطلت الشرائع، ولبطل الأمر والنهي، ويلزم من بطلان الثواب والعقاب (1).
ويستمر الجدال بينهما مؤكدا ما يهدف إليه كل من الطرفين، وكذلك الأمر فيما ذكره ابن القيم بين سني وقدري. وإذا كان هذا الجدول في باب العقائد، فقد كان للفقهاء مناظراتهم في باب الفقه وفي مواسم الحج، وكانت مجادلات الفقهاء أخصب وأعم خيرا، وأكثر إنتاجا من مجادلات الفرق المختلفة، وإذا كان هذا لا ينفي ما وجد من جدل تعصب فيه كل لموطنه البصرة أو الكوفة، وفي ذلك ما فيه من لجج وخصومة (2).
ويصور الشيخ أبو زهرة حالة العصر الذي نحن بصدده فيقول: " والعصر كان عصر مناظرات وجدل، فمناظرات شديدة اللجب، قوية الأثر بين الفرق المختلفة وبين الشيعة والجماعة، وبين الخوارج وغيرهم، وبين أهل الأهواء جملة، وبين المعتزلة والمدافعين عن الآراء الإسلامية والعقيدة السليمة القوية، يرحل العلماء لأجل هذه المناظرات، وقد رأيت أن أبا حنيفة قد رحل إلى البصرة نحو اثنتين وعشرين مرة لأجل مناظرة الفرق الكثيرة المختلفة (3).
وقد ارتبط بهذا الجو بعض المظاهر العلمية التي بقيت وأثرت في الفكر الإسلامي بين أخذ ورد، أعني وجود علم الكلام بمدارسه المختلفة والكتب التي ألفت في العقائد والنحل. وسنفرد كلا بكلمة وجيزة.
(1) ابن القيم / شفاء الغليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل / 75 (طبعة صبيح).
(2)
أبو زهرة / أبو حنيفة / 89.
(3)
أبو زهرة / أبو حنيفة / 89.