الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه المقدمة، وما تلاها من أجزاء كتابه العبر الذي مثل محاولة إعطاء تاريخ عالمي، هي النظرية المتكاملة الأولى في التأريخ الإنساني، لتفسير التأريخ. . وشأن ابن خلدون فيها هو شأن الذين لحقوه واعتمدوا عليه من الأوربيين وغيرهم، وتعمقت لدى بعضهم مشكلات تفسير التأريخ.
فعمل ابن خلدون يتسم ب
الشروط الأساسية لتفسير التأريخ
، وهي التي لا يقوم (علم تفسير التأريخ) بدونها.
وهذه الشروط هي:
1 -
الشمولية العالمية في النظرة إلى التأريخ، أو حسب تعبير بعضهم:" النظرة الكلية "؛ فالتأريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة، لا يمكن أن تشكل أساسا لتفسير التأريخ.
ولا ينتظر أن يستقرئ كل مفسر للتأريخ سائر الأمثلة التي تقدمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات، فذلك عمل، وإن كان هدفا مثاليا، إلا أنه تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير.
وحسب مفسر التأريخ أن يقدم شرائح من حضارات مختلفة بحيث تكون نتائجها المستخلصة منها صالحة للتكرار والتعميم.
2 -
العلية، فلا تفسير بدون تعليل، ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هذه العلية. وأي فلسفة، في أي علم من العلوم، لا بد أن تعتمد التعليل، وهذا من الفروق الأساسية بين المنهج التأريخي التقليدي والمنهج الحضاري أو منهج تفسير التأريخ.
والتعليل -أيضا- لا بد أن يكون قابلا للتكرار، في أطر حضارية أخرى، ولا بد أن يكون (عاما) شأن سائر القوانين. وأما التعليل الجزئي، الذي يشبه " الحكمة " الخاطفة، فلا يرقى إلى التعليل المطلوب لمفسر التأريخ.
والتعليل التاريخي الذي يعتمده مفسر التأريخ، ليس تعليلا جزئيا - كما
ذكرنا -وليس تعليلا خارجيا، بل هو تعليل باطني (1)، مستقى من الرؤية الشاملة الفلسفية لما يقبع خلف الوقائع الظاهرة. إنه نظر إلى الواقعة من داخلها، ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها، ومن ربطها بإطارها العام، وهذا ما ألمع إليه ابن خلدون بقوله:
" أما بعد، فإن فن التأريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والأول، والسوابق من القرون والدول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق "(2).
3 -
الفكر، فإذا كان المؤرخ مجرد مسجل للحدث، باحث عن الطرق الصحيحة لإثباته، فإن مفسر التأريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقدة، في محاولة لجمع جزئيات الماضي، ولاستحضاره في حاضره، عن طريق بنائه بناء تركيبيا، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب. فالجانب المعرفي والفكري أساسي لمفسر التاريخ.
4 -
الحركة أو " الديناميكية " فالمفسر للتاريخ يقدم لنا صورة تبدو وكأنها إعادة حية (متحركة) للوقائع، حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث. ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية " والبيولوجية " والفكرية والعقدية والاقتصادية، ويربط بينها ويعطي لكل عامل
(1) انظر د. أحمد صبحي: في فلسفة التاريخ 139
(2)
المقدمة 3 - 4