الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف (1).
وبهذا فإن لفظ السلف حين يطلق يجب أن ينصرف لا إلى مجرد السبق الزمني، بل إلى أصحاب الرسول وتابعيهم ومن بعدهم بشرط الالتزام بمنهجهم والذين يتأخر بهم الزمن أن يسموا سلفا إذا كانوا على نهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما لفظ الخلف فإنه لا يعني مجرد التأخر في الزمن، ولكنه يضم إلى هذا معنى آخر هو البعد عن منهج السلف واتباع منهج الجدل العقلي وغيره من طرق البشر في التفكير الذي لا يستند إلى كتاب أو سنة. وقد حمل بعض العلماء شهرة بلقب السلفي، وتناقلها كتب التراجم والطبقات أمثال: الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم سلفة الأصبهاني، وهو أحد الحفاظ المحدثين. ولد / 472 هـ وتوفي 576 هـ وعاش مائة وأربع سنين، وكان مشهورا بلقب السلفي (2) وقد أخطأ فريد وجدي في هذا. والأصح: أنه السلفي بكسر ففتح.
وكما اشتهر هذا الوصف - في فهمنا - عن التحديد الذي أشرنا إليه من التزام منهج الصحابة والتابعين.
وجدير بالذكر أنه إلى جانب هذين اللفظين قد يحمل مصطلح أهل السنة معنى " السلف " كما نراه كثيرا في استعمالات ابن تيمية، وقد يكون أكثر اتساعا إذا أطلق في مقابل لفظ " الشيعة "، ولكن الأغلب أن يتحدد مفهوم أهل السنة بأهل الحديث ومن تابعهم من الفقهاء.
(1) الفتاوى 5/ 9.
(2)
محمد فريد وجدي / دائرة المعارف 5/ 229.
المرحلة الأولى:
تكاتفت عوامل عديدة لتجعل القرنين الثاني والثالث الهجريين فترة
اتسمت بالجدل حول قضايا العقيدة، وأدت بطريق أو بآخر إلى بداية التأليف في بحوث العقائد الأمر الذي أوجد بالمكتبة الإسلامية كثيرا من المؤلفات في هذا الموضوع وما يتصل به من تأريخ للملل والنحل.
ولعل أبرز هذه العوامل ما يلي:
1 -
وجود الفرق واشتغالها بمسائل استتبعت ردا من المخالفين لهذه الفرقة أو تلك ممن يختلفون في الأصول، وتعصب كل فرقة لأصولها التي حكمتها في القضايا، وحكمت بها على مسائل الخلاف، ولكي ندرك أثر هذا العامل يجب أن نعي حقيقتين هامتين:
الحقيقة الأولى: أن قضايا العقيدة كانت موضع اهتمام القرآن الكريم باعتباره كتاب الإسلام، الذي يؤسس بناء الفرد على عقيدة التوحيد، ويفرع منها كل نواحي النشاط الإنساني، سواء في جانب علاقة الإنسان بربه في العبادات، أو علاقة الإنسان بالناس في المعاملات والآداب، أو علاقة الإنسان بالكون تسخيرا وتأملا وتحقيقا للخلافة والعمارة من خلاله.
وسواء جاء الاهتمام بالتوحيد وتقريره في صورة إخبار عن حقيقة مؤكدة مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1){اللَّهُ الصَّمَدُ} (2){لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4)، ومثل:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (5). أو في صورة بيان يفهمه العقل ويصدقه الواقع المشاهد، مثل قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (6) وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (7).
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2)
سورة الإخلاص الآية 2
(3)
سورة الإخلاص الآية 3
(4)
سورة الإخلاص الآية 4
(5)
سورة البقرة الآية 163
(6)
سورة الأنبياء الآية 22
(7)
سورة المؤمنون الآية 91
أقول: سواء جاءت المعالجة بهذه الصورة أو تلك أو غيرهما، فإن المؤكد أن القرآن قد بين (أن الإيمان بإله واحد له صفات الكمال والجلال لا شريك له في ملكه، ولا نظير له في الخلق والإيجاد والتأثير والتقدير، هو الذي يتفق مع ما نشاهده ونلاحظه من دقة ونظام في هذا الكون الذي يجري على سنن ثابتة وقوانين مطردة لا تختل ولا تتخلف)(1).
وكما اهتم القرآن بإرساء الأصل وهو التوحيد عقيدة الإنسان حين لم تنحرف فطرته، اهتم كذلك بمحاربة الانحراف الذي حدث عند بعض الأقوام عن هذا الأصل معيدا الناس إليه:{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2): {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3). وبنفس المنهج يدحض فرية الشركاء والمشركين في كثير من الآيات، والقرآن في إرسائه أصل العقيدة التوحيد يربط بين هذا الاعتقاد والعمل المرتبط به كمظهر عملي للتوحيد الذي يمثل أساس البناء ومنهج الحركة في الحياة (4)، نقرأ مثلا قول الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (5)، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6){لَا شَرِيكَ لَهُ} (7).
والتذكير بهذه الحقيقة يظهر أثر الفرق فيما جد على الناس من جدل واختلاف كفر البعض فيه من ليس على فكرهم، ذلك أن اهتمام القرآن
(1) د. عبد الحميد مدكور / مذكرات في علم الكلام / 28. (دار العلوم 1976).
(2)
سورة النحل الآية 51
(3)
سورة المائدة الآية 73
(4)
مدكور / مذكرات في علم الكلام / 39.
(5)
سورة فصلت الآية 6
(6)
سورة الأنعام الآية 162
(7)
سورة الأنعام الآية 163
بالتوحيد إنما هو من باب تصحيح عقيدة، يرى أكثر الباحثين أنها عقيدة الإنسان منذ نشأته، وأن هذه العقيدة لم تنفك عنها أمة من الأمم، وأن الإنسان قد انجرف إلى ألوان من الوثنية والتعدد لم يكن عليها في القديم (1).
ولنفس الغاية كان الاهتمام بدحض شبهات الشرك والتعدد ومجادلة المنحرفين من أهل الكتاب. وقد جاء الحديث عن صفات الله الواحد القادر المريد، بما لا يحدث انفصالا بين الذات والصفات، وقد فهم سلف الأمة هذه الحقيقة فساقوا الكلام سوقا واحدا، ووصفوا الله بما وصف به نفسه، فإذا جئنا إلى التوحيد لدى فرق المتكلمين وجدنا تشقيقات ليس للمسلمين بها عهد، فهناك علاقة الصفات بالذات الإلهية، وهل وجودها يتعارض مع الوحدانية أم لا؟ وهناك من لا يفرقون بين صفات الله المتفرد بالجلال والذي ليس كمثله شيء، وبين صفات مخلوقاته تشبيها أو تمثيلا، وهناك غير هذا من مهاترات الفرق، وتشقيقات المجادلين.
وقد أدى هذا الفهم الغريب للتوحيد بفرقة كالمعتزلة - والتوحيد واحد من أصولها الخمسة - إلى أن تنفي عن الله أكثر الصفات الثبوتية، كالقدرة والإرادة والعلم، بحجة أن هذا يتنافى مع التوحيد، ويقترب بالمسلمين من تعدد كتعدد النصارى، كما أدى بهم فهمهم هذا إلى التأويل في الصفات الخبرية التي تثبت لله يدا وعينا وغير ذلك، وقد أوقعهم فهمهم هذا إلى القول بخلق القرآن، وما جره على المسلمين من بلاء واضطراب.
وقد أدى بهم هذا الفهم إلى جدل طويل مع الفرق الأخرى وعلى رأسهم الأشعرية الذين يخالفونهم الرأي، كما أدى بهم إلى أن وصفهم غيرهم بأنهم المعطلة وأنهم أخذوا آراءهم هذه من الزنادقة وليت الأمر يقف عند حد الجدل بل هو مخالفة صريحة للنصوص القرآنية الواردة في هذا الصدد
(1) د. محمد عبد الله دراز / الدين / 112، 113 (الطبعة الثانية).
" وسواء أخذ المعتزلة آراءهم هذه عن الزنادقة كما يذكر الأشعري، أم عن الفلاسفة كما يذكر الشهرستاني، فإن رأي المعتزلة لا يشهد له الشرع، بل إنه يؤدي إلى إنكار كثير من آيات القرآن التي تصف الله سبحانه بصفات العلم والقدرة والإرادة وغيرها "(1).
الحقيقة الثانية: هي أن كثيرا مما أثير بين الفرق، بل مما أخذت الفرق منه أسماءها قد يكون له جذور أسبق من القرنين الثاني والثالث، كما يرى مثلا بعض العلماء في أمور القدر والجبر والخوارج. فالخروج الذي يستحقه من يخرج على الحق يرى البعض أن جذوره تمتد إلى يوم أن «قال ذو الخويصرة التميمي لرسول الله عقب قسمته لذهبة آتته من اليمن: اعدل يا محمد؛ فإنك لم تعدل. حتى قال عليه السلام: " إن لم أعدل فمن يعدل؟ ". فعاود وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى (2)». ويقول الشهرستاني عن هذا الموقف: " ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجيا فمن اعترض على الرسول الحق أولى أن يصير خارجيا، أو ليس ذلك قولا بتحسين العقل وتقبيحه، وحكما بالعقل في مقابلة النص، واستكبارا على الأمر بقياس العقل؟ ".
كذلك فإن مسألة القدر والجبر قد أثيرت على ألسنة المشركين كما يحكي الله تعالى عنهم في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (3).
وواضح أنهم لا يريدون الاعتذار عن القبائح التي يعتقدونها، بل مرادهم بذلك الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ورضي الله عنه بناء على أن
(1) مدكور / مذكرات في علم الكلام / 35.
(2)
صحيح البخاري فرض الخمس (3138)، صحيح مسلم الزكاة (1063)، سنن ابن ماجه المقدمة (172)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 354).
(3)
سورة الأنعام الآية 148
المشيئة والإرادة تساوي الأمر عندهم. ويذكر الشهرستاني أنها قد أثيرت أيضا على ألسنة المنافقين الذين قالوا يوم أحد: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (2) وقولهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (3) فهل ذلك إلا تصريح بالقدر (4)؟
نقول: قد يكون هناك جذور للقضايا التي طال الجدل فيها بين الفرق كما ذكرنا أمثلة منها، لكن هذه الجذور لم تكن بالقوة التي تثير جدلا وتخلق بلبلة، وأظن الأمر يختلف كثيرا إذا قورن بما أحدثه الخوارج إثر خروجهم بعد مسألة التحكيم، وما ناقشوه من قضايا مرتكب الكبيرة، وتكفيرهم غيرهم، وما تبع هذا من موقف المرجئة الذين غالى بعضهم إذ اعتبر أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
كذلك إذا نظرنا القدرية وجدنا أن ما كان في آخر عصر الصحابة والذي امتد إلى العصر الأموي والعباسي أصبح شيئا آخر غير الجذور الأولى خطرا وفكرا. يقول ابن تيمية: " ثم حدث في آخر عصر الصحابة القدرية. . . وأما القدرية فخاضوا في قدره بالباطل، وأصل ضلالتهم: أن القدر ينافي الشرع. . . فصاروا حزبين: حزبا يغلب الشرع فيكذب بالقدر وينفيه أو ينفي بعضه. وحزبا يغلب القدر فينفي الشرع في الباطن، أو ينفي حقيقته ويقول: لا فرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه في نفس الأمر الجميع سواء "(5).
وكذلك فإن الجبر أصبح نحلة، واعتنقه ناس يدعون إليه ويدرسونه ويبينونه للناس، وسواء كان أصله نحلة يهودية كما يقول ابن نباتة المصري صاحب سرح العيون في رسالة ابن زيدون، أم هو نحلة أصلها فارسي كما يذكر المرتضى في المنية والأمل، فإن المقرر أن الجبر أحدث جدلا طويلا على
(1) سورة آل عمران الآية 154
(2)
سورة آل عمران الآية 154
(3)
سورة آل عمران الآية 156
(4)
الملل والنحل / 1/ 18.
(5)
ابن تيمية / الفرقان بين الحق والباطل / 158. (الجزء الأول من الرسائل طبعة صبيح).