الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور رحمهم الله على بطلان نكاح المحلل بالكتاب والسنة والإجماع، وقدم الاستدلال بالسنة على الكتاب، مع أن الشأن عند تساوي هذه الأدلة في الدلالة أن يقدم الكتاب؛ لأن السنة في الأدلة أبين كما قال ذلك العلامة ابن تيمية رضي الله عنه.
وفي طريق الاستدلال على المطلوب مسالك:
المسلك الأول (1):
ما رواه سفيان الثوري، عن ابن قيس الأزدي، عن هذيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والموشومة، والواصلة والموصولة، والمحلل والمحلل له، وآكل الربا وموكله (2)» . رواه أحمد والنسائي، وروى الترمذي من هذا الحديث «لعن المحلل والمحلل له (3)». وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين.
وقال في وجه الاستدلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل، فعلم أن فعله حرام؛ لأن اللعن لا يكون إلا على معصية، بل لا يكاد يلعن إلا على فعل الكبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذا اجتنبت الكبائر - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله - ولم يستوجب ذلك إلا بكبيرة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب ختم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار فهو كبيرة. رواه عنه ابن أبي طلحة، وهذا دليل على بطلان العقد؛ لأن النكاح المحرم باطل باتفاق الفقهاء، يدل لذلك أنهم حملوا نهيه عليه السلام أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها على التحريم والفساد.
ثم إنه لعن المحلل له فتبين من ذلك أنها لم تحل له بذلك، إذ لو حلت له لكان نكاحه مباحا، فلم يستحق اللعن عليه، فعلم أن الذي فعله المحلل حرام باطل، وإن تزوج المطلق ثلاثا لأجل هذا التحليل فزواجه حرام باطل. ومع أن مجرد تحريم عقد النكاح كاف في بطلانه، ففي خصوص هذا الحديث ما يدل على فساد العقدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لعن المحلل له، فلا يخلوا إما أن يكون حل
(1) الفتاوى الكبرى ص 155 ج 3 / ط - الكردي سنة 1328 هـ.
(2)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2125)، سنن الترمذي الأدب (2782)، سنن النسائي الطلاق (3416)، سنن أبو داود الترجل (4169)، سنن ابن ماجه النكاح (1989)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 448)، سنن الدارمي الاستئذان (2647).
(3)
مسند أحمد بن حنبل (1/ 448).
للثاني تزوجها، وإما أن لا يكون حل، والأول باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنه، ولو كانت قد حلت له لكان تزوجه بها جائزا، ولم يجز لعنه، فيتعين الثاني. وإذا لم تكن حلالا للثاني، فكل امرأة يحرم التزوج بها فالعقد عليها باطل، وهذا ثابت بالإجماع المتيقن، بل بالعلم الضروري من الدين. وذلك أن محل العقد كالمبيع والمنكوحة إذا لم تكن مباحا كالميتة والدم والمعتدة والمزوجة كان العقد عليها باطلا بالضرورة والإجماع.
وإذا ثبت إنها لم تحل للثاني وجب أن يكون عقد الأول عليه باطلا؛ لأنه لو كان صحيحا لحصل به الحل كسائر الأنكحة الصحيحة، والكلام المحفوظ لفظا ومعنى في قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1). ومن قال: إن النكاح صحيح، وهي لا تحل له فقد أثبت حكما بلا أصل ولا نظير، وهذا لا يجوز.
نوقش هذا الدليل: بأن التحريم وإن اقتضى فساد العقد فإنما ذلك إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين، فإذا كان التحريم ثابتا من أحدهما لم يجب الفساد كبيع المصراة والمدلس، وهذا التحليل المكتوم إنما هو حرام على الزوج المحلل، فأما المرأة ووليها فليس حراما عليهما إذا لم يعلما بقصد الزوج، فلا يكون العقد فاسدا كما ذكرنا من النظائر، إذ في إفساده إضرار المغرور من المرأة والولي، وصار هذا كما لو اشترى سلعة؛ ليستعين بها على معصية، والبائع لا يعلم قصده، فإن هذا العقد لا يحكم بفساده، وإنما حرم على المشتري، فالموجب للتحريم كتمان أحدهما لنقص المعقود عليه أو كذبه في وصفه، وإذا كان هذا العقد غير فاسد أثبت الحل؛ لأنه مقتضى العقد الصحيح، ثم قد يقال: تحل بهذا العقد للزوج الأول؛ عملا بعموم اللفظ والمعنى، وطردا للقياس كما قال بعضهم، وقد يقال: لا تحل به للأول كما قال محمد بن الحسن؛ لأن السبب معصية، والمعصية لا تكون سببا للاستحقاق، والحل وإن حكم بصحة العقد ووقوع السبب، ولا يلزم من حلها للزوج المحلل حلها للزوج المطلق؛ لأن الحل للأول حصل ضرورة تصحيح العقد لأجل حق العاقد الآخر، ومتى صح بالنسبة للمرأة فقد استحقت الصداق والنفقة واستحلت الاستمتاع؛ ولا يثبت هذا إلا مع استحقاق الزوج ملك النكاح واستحلاله الاستمتاع، بخلاف
(1) سورة البقرة الآية 230
المطلق؛ فإنه لا ضرورة هناك تدعو إلى تصحيح عقده. يقوي هذا أن بعض السلف منهم عمر وعطاء قد روي عنهم جواز إمساك الثاني لها إذا حدثت له الرغبة ومنعوا عودها للأول.
ويجاب عن هذه المناقشة: بما قال ابن تيمية، رحمه الله: إذا انفرد أحد العاقدين بعلمه بسبب التحريم فإما أن يكون التحريم لأجل حق العاقد الآخر، وإما أن يكون لحق الله، فإن كان لأجل حق الآخر كما في بيع المدلس والمصراة ونكاح المعيبة المدلسة ونحو ذلك، فهذا العقد صحيح في حق هذا المغرور باطنا وظاهرا، بحيث يحل له ما ملكه بالعقد، وإن علم فيما بعد أنه كان مغرورا، وأما في حق الغار، فهل يكون باطلا في الباطن بحيث يحرم عليه الانتفاع؟ أو لا يكون باطلا؟ أو يقال: ملكه ملكا حسيا، هذا مما قد يختلف فيه الفقهاء، وما معنا ليس من هذا القبيل.
وإن كان التحريم لغير حق المتعاقدين بل لحق الله سبحانه، أو لحق غيرهما، مثل أن يبيعه ما لا يملكه، والمشتري لا يعلم، أو يبيعه لحما يقول: هذا مذكى. وهو ذبيحة مجوسي أو وثني، ومثل أن يتزوج امرأة، وهو يعلم أنها أخته من الرضاعة وهي لا تعلم ذلك، أو يكون أحد المتبايعين محجورا عليه، وهو يعلم بالحجر الآخر أو بالعكس، أو لا يعلم أن هذا الحجر يبطل التصرف، إلى غير ذلك من الصور التي يكون العقد ليس محلا في نفس الأمر. أو العاقد ليس أهلا من الطرفين، فهنا العقد باطل في حق العالم بالتحريم باطنا وظاهرا.
وإن كان الفقهاء قد اختلفوا هل تستحق المرأة في مثل هذا مهرا؟ فعن أحمد روايتان؛ إحداهما: تستحقه، وهو قول الشافعي، والأخرى: لا تستحقه، وهو قول مالك، ومن أوجب المهر فذلك مخافة أن يخلو الوطء الملحق للنسب عن عوض.
ووجوب المهر والعدة والنسب ليست من اختصاص العقد الصحيح؛ فإن هذه الأشياء تثبت في وطء الشبهة، فإيجاب المهر لا يقضي بصحة العقد، كما أن إيجاب العدة وإلحاق النسب لا يقضيان بصحة العقد، فقد يجب كل منهما مع بطلان العقد، بل كل نكاح فاسد يثبت فيه ذلك وإن كان مجمعا على فساده.
ومسألتنا من النوع الثاني الذي ثبت التحريم فيه لحق الله تعالى؛ فإن قصد التحليل إنما حرم لحق الله سبحانه بحيث لو علمت المرأة أو وليها بقصده التحليل لم تجز مناكحته، فالتحليل هنا لم يقع في أهلية العاقد ولا في
محلية المعقود عليه، وإنما وقع في نفس العقد بمنزلة الشرط الذي يعلم أحدهما بإفساده للعقد دون الآخر.
وإذا كان التحريم لحق الله سبحانه فالعقد باطل، والوطء والاستمتاع حرام على الزوج في مثل هذا وفاقا، وهل هو حرام على المرأة في الباطن أو ليس بحرام؟ قولان: أرجحهما الأول، وإن كان هذا الخلاف لا يعود إلى أمر عملي، وإن عاد إلى أمر ظاهري فيقال: هل فعلها في الظاهر حلال أو هو عفو؟
قولان: أرجحهما الثاني، فقد وقع الاتفاق على أن المرأة لا تؤاخذ على شيء من ذلك، وإذا ثبت ذلك ظهر الجواب عن قول الخصم: إنما نحكم بفساد العقد إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين، وما معنا ليس كذلك، أو يقال له: أتريد بالتحريم التحريم وإن كان في الباطن فقط؟ أو التحريم الظاهر؟ إن أردت به الأول فلا نسلم أن التحريم ثابت على الزوج وحده، بل نقول: هو ثابت على كل منهما، لكن انتفى حكمه في حق المرأة؛ لفوات الشرط وهو العلم؛ فإن المرأة لو علمت بهذا القصد لحرم العقد عليها، وهذا هو التحريم الباطن، وإذا كان كذلك فقد فسد العقد في الباطن؛ لوجود التحريم في الباطن من الطرفين، وفسد في الظاهر في حق الزوج؛ لوجود التحريم في حق الزوج ظاهرا، فترتب على كل تحريم من الفساد ما يناسبه في محله ظاهرا وباطنا من الطرفين أو من أحدهما.
وإن أردت بالتحريم التحريم الظاهر أو الظاهر والباطن من الطرفين فلا نسلم أن هذا هو الشرط في الفساد، فقد ثبت أن بيع المصراة والمدلس فاسد مع أن الذي يعلم هو البائع فقط والآخر لا إثم عليه؛ لأنه لا يعلم، ولو سلمنا أن هذا العقد صحيح، هل هو صحيح من الطرفين؟ أو من جانب الزوجة فقط؟ أما الأول فممنوع وإن قاسه على المصراة؛ لأنا لا نسلم أن انتفاع البائع بجميع الثمن في صورة التصرية حلال، ولا يلزم من ملك المشتري المبيع ملك البائع العوض، إذا كان ظلما؛ فإن الغاصب الظالم الذي حال بين الشخص وملكه للمظلوم أن يطالبه بالبدل ينتفع به حلالا، والغاصب الظالم لا يملك العين المغصوبة، ولا يحل له الانتفاع بها ونظير ذلك كثير، وإذا لم يقم دليل على صحة العقد من الطرفين فلا نسلم أن النكاح المبيح لعودها إلى الأول هو ما كان صحيحا من أحد الطرفين دون الآخر، وأما قولهم: إن المشتري إذا اشترى سلعة ليستعين بها على معصية ولم يعلم البائع بذلك، فإن البيع لا يفسد
بهذا، فكذا نكاح المحلل.
فالجواب أنه ما دام عدم العلم مستصحبا فلا إشكال، أما إذا علم البائع بقصد المشتري فلا نسلم أن البائع لا يجب عليه في الحال استرجاع المبيع ورد الثمن، لو ثبت أن هذا القصد كان موجودا وقت العقد، ولو سلمت هذه الصورة فالفرق بينها وبين نكاح المحلل قائم؛ فإن القصد في صورة الشراء لم يناف نفس العقد وهو الملك والانتفاع، أما قصد التحليل؛ فإنه مناف لمقتضى العقد، إذ مقتضاه الدوام والاستمرار، وقد ارتفع ذلك بنية إرجاعها للأول.
وأما قولهم: إن عمر رضي الله عنه جوز للزوج الثاني إمساكها بهذا العقد، ومقتضى هذا أن العقد صحيح يترتب عليه أثره.
فالجواب عنه أنه قد ثبت ما يخالف ذلك عن عمر، وعلى فرض أن عمر قال هذا، فذلك لا يقضي بصحة العقد إذا زالت النية الفاسدة؛ لأن العقد إن كان صحيحا مع وجودها - كما ذهب إليه بعض الطوائف - إلا أن الشرط الفاسد الملحق بالعقد إذا حذف بعده صح العقد، وهذا مما اختلف فيه الفقهاء، على أن كثيرا من الصحابة غير عمر قد ذهب إلى ما ذهب إليه أكثر الفقهاء، وهو أنه لا بد من استئناف عقد جديد، وبالجملة فهذا موضع اجتهاد، وأما صحة عقد المحلل بكل حال فلم ينقل لا عن عمر ولا عن غيره من الصحابة بعد البحث التام.
الثاني من مسالك الاستدلال (1):
ما روى أبو إسحاق الجوزجاني: حدثنا ابن أبي مريم أنبأنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال: لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق العسيلة» .
رواه ابن شاهين في غرائب السنن، والدلسة من التدليس، وهو الكتمان والتغطية للعيوب، والمدالسة المخادعة، يقال: فلان لا يدالسك، أي: لا يخادعك، ولا يخفي عليك الشيء، فكأنه يأتيك في الظلام، والدلس بالتحريك الظلمة، وذلك لأن من قصد التحليل فقد دلس مقصوده الذي يبطل العقد، وكتم النية الرديئة بمنزلة الخادع المدالس الذي يكتم الشر ويظهر الخير، ووجه الاستدلال ظاهر؛ فإن ابن عباس لما سئل عن نكاح المحلل من حيث إنه يحلل المطلقة لزوجها الأول، قال: لا إلا نكاح رغبة. وإسناد هذا الحديث جيد إلا إبراهيم بن إسماعيل فقد اختلف فيه، قال فيه ابن معين: هو صالح. وقال فيه أحمد: هو ثقة من أهل الذمة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: هو ضعيف. وقال فيه أبو أحمد بن عدي: هو صالح في باب الرواية، ونكتب حديثه على ضعفه.
واختار ابن تيمية ما قاله فيه ابن عدي حيث قال: والذي قاله ابن عدي عدل من القول فإن في الرجل ضعفا لا محالة، وضعفه إنما هو من جهة الحفظ وعدم الإتقان، لا من جهة التهمة، وله عدة أحاديث بهذا الإسناد. روى منها الترمذي وابن ماجه، ومثل هذا يكتب حديثه للاعتبار به ويعضده حديث مرسل يوافق ما رواه.
قال أبو بكر بن أبي شبية: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن موسى بن أبي الفرات، عن «عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له. فقال: لا، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فقال: لا حتى ينكحها مرتغبا لنفسه، حتى يتزوجها مرتغبا لنفسه» ، فإذا فعل ذلك لم تحل له
(1) الفتاوى الكبرى ص195 وما بعدها ج3.
حتى تذوق العسيلة. وهذا الحديث المرسل حجة؛ لأن الذي أرسله احتج به. ولولا ثبوته عنده لما جاز أن يحتج به من غير أن يسنده. وإذا كان التابعي قد قال: إن هذا الحديث ثبت عندي. كفى ذلك؛ لأنه أكثر ما يكون قد سمعه من بعض التابعين عن صحابي أو عن تابعي آخر عن صحابي. وفي مثل ذلك يسهل العلم بثقة الراوي. وموسى بن أبي الفرات هذا ثقة وثقه يحيى بن معين، وذكر عن أبيه أبي حاتم أنه قال: هو ثقة وناهيك عما يوثقه هذان مع صعوبة تزكيتهما، ولا أعلم أحدا جرحه، وأما ابن أبي شيبة وحميد بن عبد الرحمن الذي روى عنه ويعرف بالراوي من مشاهير العلماء الثقاة، وابن أبي شيبة أحد الأئمة، فهذا المرسل حجة جيدة في المسألة.
ثم إن الحديث الضعيف إذا روي من طريق آخر عضد أحدهما الآخر، فكان في ذلك دليل على أن للحديث أصلا محفوظا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصح الاحتجاج به على أن الحديث روي من طريق آخر إسناده جيد ورجاله مشاهير ثقاة، فقد روى وكيع بن الجراح، عن أبي غسان المدني، عن عمر بن نافع، عن أبيه، أن رجلا سأل ابن عمر عمن طلق امرأته ثلاثا فتزوجها هذا السائل من غير مؤامرة منه، أتحل لمطلقها؟ قال ابن عمر: لا إلا نكاح الرغبة، كنا نعده سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الحديث نص في أن التحليل المكتوم كانوا يعدونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحا.
الثالث من مسالك الاستدلال (1):
أن التحليل لو كان جائزا لكان النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليه من طلق ثلاثا؛ فإنه كان أرحم الناس بأمته وأحبهما لمياسير الأمور، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وقد جاءته امرأة رفاعة القرظي مرة بعد مرة، وهي تروي من حرصها على العود إلى زوجها ما يرق القلب لحالها، ويوجب إعانتها على مراجعة الأول إن كانت ممكنة، ومعلوم أن التحليل إذا لم يكن حراما فلا يحصى من يتزوجها فيبيت عندها ليلة ثم يفارقها، وقد كان يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لبعض المسلمين حلل هذا لزوجها، فلما لم يأمر هو ولا أحد من خلفائه بشيء من ذلك مع مسيس الحاجة إليه علم أن هذا لا سبيل إليه، وأن من أمر به فقد تقدم بين يدي الله ورسوله. ولم تسعه السنة حتى تعداها إلى بدعة زينها الشيطان لمن أطاعه، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. قال ابن تيمية: ومن تأمل هذا المسلك وعلم كثرة وقوع الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وأنهم لم يأذنوا لأحد في التحليل، علم قطعا أنه ليس من الدين؛ فإن المقتضى للفعل إذا كان قديما قويا وجب وجوده، إلا أن يمنع منه مانع، فلما لم يوجد التحليل مع قوة مقتضيه علم أن في الدين ما يمنع منه، وهذا مسلك حسن وجيه.
(1) الفتاوى الكبرى ج3 ص196 وما بعدها.
الرابع من مسالك الاستدلال (1):
فقد روى قبيصة بن جابر، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم، وهو مشهور ومحفوظ عن عمر. وعن يزيد بن عياض بن جعد أنه سمع نافعا يقول: إن رجلا سأل ابن عمر عن المحلل، فقال ابن عمر: عرفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو رأى شيئا من ذلك لرجم فيه. (وزيد هذا وإن كان ضعيفا إلا أن حديثه محفوظ من غير طريقه)، وعن سليمان بن يسار قال: رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج
(1) الفتاوى الكبرى ج3 ص197.
امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة.
وعن أبي مرزوق التجيبي، أن رجلا أتى عثمان قال: إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة، فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها، ثم أبني بها ثم أطلقها، فترجع إلى زوجها الأول. قال له عثمان: لا تنكحها إلا نكاح رغبة.
وعن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله. وقال سعيد في سننه: حدثنا هشيم، حدثنا الأعمش، عن عمران بن الحارث السلمي، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمه طلق امرأته ثلاثا فندم. فقال: عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال: أرأيت إن أنا تزوجتها عن غير علم منه أترجع إليه؟ قال: من يخادع الله يخدعه الله.
فهذه الآثار وغيرها مشهورة عن الصحابة، وفيها بيان أن المحلل عندهم اسم لمن قصد التحليل سواء ظهر ذلك أو لم يظهر، وأن عمر كان ينكل من يفعل ذلك، وأنه يفرق بين المحلل والمرأة، وإن حصلت له رغبة بعد العقد، إذا كان في الابتداء قصد التحليل، وأن المطلق ثلاثا وإن تأذى وندم ولقي شدة من الطلاق، فإنه لا يحل التحليل له، وإن لم يشعر هو ذلك، وهذه الآثار مع ما فيها من تغليظ التحليل فهي من أبلغ الدليل على أن تحريم ذلك واستحقاق صاحبه العقوبة كان مشهورا على عهد عمر، ومن بعده من الخلفاء الراشدين، ولم يخالف فيه من خالف في المتعة كابن عباس بل اتفقوا كلهم على تحريم هذا التحليل، فكان هذا إجماعا.
نوقش هذا: بأن تلك الآثار معارضة بما روي عن عمر بن الخطاب من أنه توعد ذا الرقعتين إذا هو طلق المرأة التي تزوجها؛ ليحلها لزوجها الأول، وروي ذلك من طرق متعددة، وكان ذلك بمرأى من الصحابة ومسمع، ولم ينكر عليه أحد، ذلك مما يدل على وجود الخلاف وعدم الاتفاق، وقد رويت تلك القصة من طرق متعددة نكتفي منها بما رواه أبو حفص العكبري في كتابه، عن ابن سيرين قال: قدم رجل مكة ومعه إخوة له صغار وعليه إزار، من بين يديه رقعة ومن خلفه رقعة، فسأل عمر فلم يعطه شيئا، فبينما هو كذلك إذ نزغ الشيطان بين رجل من قريش وبين امرأته فطلقها، فقال لها (أي زوجها): هل لك أن تعطي ذا الرقعتين
شيئا، ويحلك لي؟ قالت: نعم إن شئت. فأخبره ذلك، قال: نعم. فتزوجها فدخل بها، فلما أصبحت أدخلت إخوته الدار، فجاء القرشي يحوم حول الدار، ويقول: يا ويلاه غلب على امرأتي. فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين غلبت على امرأتي، قال: من غلبك؟ قال: ذو الرقعتين. قال: أرسلوا إليه. فلما جاء الرسول قالت له المرأة (أي لمن تزوجها): كيف موضعك من قومك؟ قال: ليس بموضعي بأس. قالت: إن أمير المؤمنين يقول لك: أتطلق امرأتك؟ فقل: والله لا أطلقها؛ فإنه لا يكرهك. وألبسته حلة، فلما رآه عمر من بعيد قال: الحمد لله الذي وفق ذا الرقعتين. فدخل عليه، فقال له: أتطلق امرأتك؟ قال: لا، والله لا أطلقها. فقال له عمر: لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط. فهذا عن عمر رضي الله عنه وهو شرط تقدم العقد، وقد حكم عمر بصحته، وإذا كان الأمر كذلك صارت المسألة خلافية، ويحمل ما ثبت عن عمر من أنه نهى عن نكاح المحلل على الشرط المقرون بالعقد، فتتفق الروايات عن عمر.
وأجاب ابن تيمية عن ذلك بوجوه، نذكر منها ما يأتي: أولا:
أن هذا منقطع ليس له إسناد، يدل لذلك ما رواه أبو حفص عن أبي النضير قال: سمعت أبا عبد الله يقول في المحلل والمحلل له: أن يفسخ نكاحه في الحال. قلت: أوليس يروى عن عمر حديث ذي الرقعتين حيث أمره عمر ألا يفارقها؟ قال: ليس له إسناد. وقال أبو عبيد: هذا حديث مرسل؛ لأن ابن سيرين وإن كان مأمونا لم ير عمر ولم يدركه، فأين هذا من الذين سمعوا عمر يخطب على المنبر لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. ثم أين هذا مما روي عن ابن عمر، أنه سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك السفاح، لو أدرككم عمر لنكلكم. والمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه.
ثانيا: إن كان هذا له أصل، فلعل الإرادة فيه لم تكن من الزوج الثاني، وإنما كانت من الزوج الأول المطلق، وذلك لا يضر ما دام الزوج الثاني لم ينو التحليل، ويقوي هذا أن الرجل لما جاء إلى عمر رضي الله عنه إنما قال: غلبت على امرأتي. ولم يقل: غدر بي، ولا مكر بي، ولا خدعت. ولو كان الزوج قد واطأه على أن يخلعها أو يطلقها لكانت شكاية إلى عمر، واحتجاجه أولى بما قاله؛ فإنه أقل ما في ذلك أن ذو الرقعتين يكون قد صدق فكذبه، ووعده فأخلفه.
ثالثا: أنه ليس في القصة أنهم واطؤوه على أن يحلها للأول، ولا أشعروه أنها مطلقة، وإنما فيها أنهم واطؤوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها، وهذا من جنس نكاح المتعة، الذي يكون للزوج فيه رغبة في النكاح إلى وقت، ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر، حتى أظهر عمر السنة بتحريمه، فلعل هذه القصة كانت قبل تحريم نكاح المتعة، ثم إن عمر رضي الله عنه أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه.
رابعا: أن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق، بل فيه النهي عن ذلك، وليس فيه دوام نية التحليل، بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا، فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام، وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما يسوغ فيه الخلاف، كما في النكاح بدون إذن المرأة، أو نكاح العبد بدون إذن سيده، أو نكاح الفضولي؛ فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف؟ وبعض الفقهاء يقول: إن الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح، فيمكن أن يكون قول عمر رضي الله عنه مخرجا على هذا؛ فإن الصحابة قد اختلفوا فيه، ونية التحليل كاشتراطه، فيكون هذا الشرط الفاسد إذا حذف صح العقد وإلا فسد، وإذا كانت هذه الحكاية بهذه المثابة من الإسناد والاحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه ابنه ومن سمعه يخطب على منبر المدينة.
خامسا: أنه لو ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك؛ لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه، وأنه خطب الناس على المنبر فقال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح، وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم، وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده، كما يكون بشرطه، وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها من الرخصة، ثم بعد هذا بلغ عمر رضي الله عنه النهي عن التحليل، فخطب به وأعلن حكمه، كما خطب بالنهي عن المتعة وأعلن حكمها، ولا يمكن أن يكون رخص في التحليل بعد النهي عنه؛ لأن النهي إنما يكون عن علم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ترك الإنكار؛ فإنه يكون عن الاستصحاب وما
نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله؛ فإنه لا يمكن تغيير ذلك بعد موته، فثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يختلفوا في ذلك.
الخامس من مسالك الاستدلال (1):
أن الله سبحانه وتعالى قال بعد قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) وبعد ذكر الخلع {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3)، ونكاح المحلل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق، وليس المحلل والمتمتع بزوج، وذلك لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم، ولهذا يقولون: استنكحه المذي، إذا لزمه وداومه، يدل على ذلك أن ابن عباس سئل عن المتعة - وكان يبيحها - أنكاح هي أم سفاح؟ فقال: ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة. فأخبر بأنها ليست بنكاح كما لم يكن مقصودها الدوام والملازمة، ولذا لم يثبت فيها أحكام النكاح المختصة بالعقد من الطلاق والعدة والميراث، وإنما ثبت فيها أحكام الوطء، ولذلك قال ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين: نسخ المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث، فإذا كان المستمتع الذي له قصد في الاستمتاع بها إلى أجل ليس بناكح؛ لأنه لم يقصد دوام الاستمتاع ولزومه، فالمحلل الذي لم يقصد شيئا من ذلك أولى أن لا يكون ناكحا، ويكون قوله: نكحت أو تزوجت، وهو يقصد أن يطلقها بعد ساعة أو ساعتين، وليس له فيها غرض أن تدوم معه ولا تبقى، كذب منه وخداع، ويكون قول الولي له: زوجتك أو أنكحتك وقد شارطه أن يطلقها إذا وطئها كذب وخداع كذلك.
وهذا المعنى هو ما قصده ابن عمر رضي الله عنه حين سئل عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكل بكم. وقال: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله أنهما أرادا أن يحلها له. وهو معنى قول عمر رضي الله عنه لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
(1) الفتاوى الكبرى ص205 وما بعدها ج3.
(2)
سورة البقرة الآية 229
(3)
سورة البقرة الآية 230
ويبين هذا أن المطلق في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) إنما يعقل منه الرجل الذي يقصد مقامه ودوامه مع المرأة، بحيث ترضى مصاهرته وتعتبر كفاءته وتطيق المرأة ووليها أن يملكها، وهذا المحلل الذي جيء به للتحليل ليس بالزوج، وإنما هو تيس استعير للضرابة، والله عز وجل قد علم من المرأة ووليها أنهم لا يرضونه زوجا، فإذا أظهروا في العقد قولهم: زوجناك أو أنكحناك. وهم لا يرغبونه زوجا كان هذا خداعا، واستهزاء بآيات الله تعالى، ويقوي هذا أن الله تعالى حرم المطلقة حتى تنكح زوجا غيره، والنكاح المفهوم في عرف أهل الخطاب إنما هو نكاح الرغبة، ولا يفهمون عند الإطلاق إلا هذا، ولذا لو قال الرجل لابنه: اذهب فانكح. فصار محللا، لعده أهل العرف غير ممتثل لأمر أبيه.
وما دون النكاح المطلق لا يطلق على نكاح إلا مقيدا، فيقال: نكاح المتعة ونكاح المحلل، كما يقال: بيع الخمر وبيع الخنزير، والله سبحانه وتعالى قال:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) ولم يرد به كل ما يسمى نكاحا مع الإطلاق أو التقييد إجماعا؛ فإن ذلك يدخل فيه نكاح المحارم، فتعين أن يراد به ما يفهم من لفظ النكاح عند الإطلاق في عرف المسلمين، وهو نكاح الرغبة والدوام واللزوم. ويؤيد هذا أن التحريم قبل هذا النكاح ثابت بلا ريب، ونكاح الرغبة رافع لهذا التحريم اتفاقا، ونكاح المحلل لا نعلمه مرادا من هذا الخطاب ولا هو مفهوم منه عند الإطلاق، فيبقى التحريم ثابتا حتى يقوم الدليل على أنه نكاح مباح، ومعلوم أنه لا يمكن لأحد أن يذكر نصا يحل هذا النكاح، ولم يثبت دخوله في اسم النكاح المطلق، ولا يمكن حله بقياس؛ فإنه لا يلزم من حل نكاح الرغبة حل نكاح المحلل؛ لوجود الفارق؛ فإن الراغب مريد للنكاح، فناسب أن يباح له ذلك، وأما المحلل فليس له غرض في النكاح ولا إرادة، فلا يلزم أن يباح له ما لا رغبة له فيه؛ إذ الإرادة مظنة الحاجة.
كما يقوي هذا أيضا أن الله سبحانه أطلق النكاح التام الذي يحصل فيه مقصود النكاح، وهو الجماع المتضمن ذوق العسيلة، فعلم أنه لم يكتف بمجرد ما يسمى نكاحا مع التقييد، وإنما أراد ما هو النكاح المعروف الذي يفهم عند الإطلاق، وذلك إنما هو نكاح الرغبة المتضمن ذوق العسيلة، وإذا ثبت
(1) سورة البقرة الآية 230
(2)
سورة البقرة الآية 230
أن هذا ليس بنكاح ثبت أنه حرام؛ لأن الفرج حرام إلا بنكاح أو ملك يمين، وثبت أنها لا تحل للمطلق؛ إذ إن الله حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، وهو المطلوب.
السادس من مسالك الاستدلال (1):
أن الله سبحانه وتعالى قال بعد أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2): يعني فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها، ولا على الزوج الأول أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، ووجه الاستدلال أنه سبحانه عبر بإن فقال:" فإن طلقها ". ولم يقل: " إذا ". وفرق بين الحرفين؛ فإن " إن " في لسان العرب تستعمل فيما يمكن وقوعه وعدم وقوعه، أما " إذا " فإنها تستعمل فيما يقع لازما أو غالبا، ولذلك تقول العرب: إذا احمر البسر فأتني. ولم يقولوا: إن احمر البسر فأتني؛ لأن احمرار البسر واقع لازما أو غالبا، والإتيان بإن هاهنا يفيد أن النكاح في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) نكاح يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع فيه تارة أخرى، وهذا ليس شأن نكاح المحلل؛ فإنه نكاح يقع فيه الطلاق لازما أو غالبا، فأفاد ذلك أنه ليس داخلا في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4) وإلا فيقال: فإذا طلقها وبذلك يعلم أن الآية دالة على أن النكاح المقصود في الآية نكاح معتبر يفيد الدوام واللزوم، فلا يكون نكاح المحلل داخلا، فلا تكون الآية دالة عليه فلا يعتبر في تحليل المرأة لزوجها الأول، فإن قيل: إن الآية عمت كل نكاح فلهذا قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (5)؛ إذ من الناكحين من يطلق ومنهم من لا يطلق، وإن كان غالب المحللين أنه يطلق فيكون نكاح المحلل داخلا.
وقد أجاب ابن تيمية عن ذلك فقال: لو أراد سبحانه ذلك لقال: فإن فارقها؛ لأن الزوج الثاني قد يموت عنها، وقد تفارقه بانفساخ النكاح بحدوث أمر كرضاع أو لعان أو بفسخه لعسرة أو غيره فتحل للزوج بواحد من هذه الأشياء، ومعلوم أن هذه الأشياء ليست بيد الزوج، وأن الذي بيده خاصة هو
(1) الفتاوى الكبرى ص207 وما بعدها جـ3.
(2)
سورة البقرة الآية 230
(3)
سورة البقرة الآية 230
(4)
سورة البقرة الآية 230
(5)
سورة البقرة الآية 230
الطلاق، فلما عدل عن لفظ المفارقة إلى لفظ الطلاق الذي يملكه الزوج الثاني فقط، كان ذلك لفائدة خاصة وهي الإيذان بأن هذا نكاح قد يكون فيه الطلاق لا نكاح معقود لوقوع الطلاق، يقوي هذا أن لفظة الفراق أعم فائدة وبه جاء القرآن في قوله تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) فلو لم يكن في خصوص لفظ الطلاق فائدة لكان ذكر الأعم أولى، وما ذكر هو الإيذان بأن هذا نكاح قد يقع فيه الطلاق لا أنه معقود للطلاق تصلح أن تكون فائدة، فيجب الحمل عليها، وبذلك لا يكون نكاح المحلل داخلا في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2)
يوضح ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (3)؛ فإن التطهير لما كان مقصودا جيء فيه بحرف التوقيت وهو " حتى "، ولما كان الطلاق هنا غير مقصود جيء فيه بحرف التعليق وهو " إن "، فلو كان نكاح المحلل مما يدخل في قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ} (4) لكان هو الغالب على نكاح المطلقات. وكان الطلاق فيه مقصودا فتتفق الآية التي معنا مع هذه الآية وهي: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (5) لكن لما لم يكن الأمر كذلك فرق الله بين الآيتين في التعبير غاية الأمر، أنه توقف الحل في آية الحيض على شرطين قال:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (6)
فبين أن التحريم الثابت بقول الله زال بوجود الطهر ثم بقي نوع آخر أخف منه يمكن زواله بفعل الآدمي، فبين حكمه بقوله:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (7) وفي الآية التي معنا لم يرد بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (8) بيان توقف الحل على طلاقها لأمر بها؛ لأن ذلك معلوم قد بينه بقوله تعالى في جملة المحرمات والمحصنات من النساء، ولأن الطلاق وحده لا يكفي في الحل حتى تنقضي عدة المطلقة، ولا شك أن العلم بأن المتزوجة لا تحل أظهر من العلم بأن المعتدة لا تحل، فلو أريد هذا المعنى لكان ذكره العدة أوكد وأظهر، فتبين من هذا كله أنه لا بد من فائدة لذكر هذا الشرط:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} (9) ثم في ذكر حرف " إن " وما ذاك إلا لبيان أن النكاح المتقدم المشروط هو الذي يصح أن يقال فيه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (10) ونكاح المحلل ليس كذلك فثبت ما ندعيه.
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2)
سورة البقرة الآية 230
(3)
سورة البقرة الآية 222
(4)
سورة البقرة الآية 230
(5)
سورة البقرة الآية 222
(6)
سورة البقرة الآية 222
(7)
سورة البقرة الآية 222
(8)
سورة البقرة الآية 230
(9)
سورة البقرة الآية 230
(10)
سورة البقرة الآية 230
السابع من مسالك الاستدلال على إبطال التحليل (1):
فقد روى ابن ماجه وابن بطة بإسناد جيد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزءون بآياته؛ طلقتك راجعتك؛ طلقتك راجعتك (3)» .
وجه الدلالة أن الله سبحانه حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها، ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها ثم يطلقها قبل جماع أو بعده، ويمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها ثم يطلقها فتصير العدة تسعة أشهر، هكذا فسره عامة العلماء من الصحابة والتابعين، وجاء فيه حديث مسند.
ومعلوم أن هذا الفعل لو وقع اتفاقا غير قصد منه بأن يرتجعها راغبا فيها ثم يبدو له فيطلقها، ثم يبدو له فيرتجعها راغبا، ثم يبدو له فيطلقها لم يحرم ذلك عليه، لكن لما فعله لا للرغبة، لكن لمقصود آخر وهو أن يطلقها بعد ذلك؛ ليطيل العدة عليها، حرم ذلك عليه، وتطويل العدة هنا لما يحرم؛ لأنه في نفسه ضرر؛ فإنه لو كان كذلك لحرم، وإن لم يقصد الضرر كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء قبل أن يتبين له أنها حامل، وإنما حرم لأنه قصد الضرر، فالضرر هنا إنما حصل بأن قصد بالعقد فرقة توجب ضررا لو حصل بغير قصد إليه لم يكن سببه حراما، كما أن المحلل قصد بالعقد فرقة توجب تحليلا لو حصل بغير قصد لم يكن سببه حراما.
فإما أن يكون القصد لغير مقصود العقد محرما للعقد أو لا يكون، فإن لم يكن محرما للعقد والفعل المقصود هنا وهو الطلاق الموجب للعدة ليس محرما في نفسه، فيجب أن يكون صحيحا على أصل من يعتبر ذلك، وهو خلاف القرآن، وإن كان محرما للعقد فيجب أن يكون نكاح المحلل باطلا.
(1) الفتاوى الكبرى ص211 وما بعدها جـ3.
(2)
سورة البقرة الآية 231
(3)
سنن ابن ماجه الطلاق (2017).
وذلك أن الطلاق المنضم إلى النكاح المتقدم يوجب العدة المحرمة لنكاحها، ويوجب حلها للزوج الأول، فلا فرق بين أن يقصد بالنكاح وجود تحريم شرع ضمنا، أو وجود تحليل شرع ضمنا؛ فإنما شرع الله من التحريم أو التحليل ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا، ومتى أراده الإنسان أصلا وقصدا فقد ضاد الله في حكمه، يوضح ذلك أن الطلاق سبب لوجوب العدة، وإذا وقع كانت العدة عبادة الله تثاب المرأة عليها إذا قصدت ذلك، فكان الطلاق الثاني سببا يحل المطلقة، والرجعة مقصودها المقام مع الزوج لا فراقها، كما أن النكاح مقصوده ذلك، ولكن في العدة ضرر بالمرأة يحتمل من الشارع إيجاب ما يتضمنه ولا يحتمل من العقد قصد حصوله، وكذلك في طلاق الزوج الثاني حل لمحرم، وزوال ذلك التحريم يتضمن زوال المصلحة الحاصلة في ذلك التحريم، إذ لولا ما في تحريمها على المطلق من المصلحة لما شرعه الله، وزوال هذه المصلحة يحتمل من الشارع إثبات ما يتضمنه، ولا يحتمل من العبد قصد حصوله، ولا فرق في الحقيقة بين قصد تحليل ما لم يشرع تحليله مقصودا، وبين قصد تحريم ما لم يشرع تحريمه مقصودا.
المسلك الثامن من مسالك الاستدلال على إبطال التحليل (1):
قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (2) ووجه الدلالة أن من آيات الله شرائع دينية في النكاح والطلاق والرجعة والخلع؛ لأنها الطريقة التي يحل بها الحرام من الفروج، أو يحرم بها الحلال وهي من دين الله الذي شرعه لعباده، وكل ما دل على أحكام الله فهو من آياته، والعقود دلائل على الأحكام الحاصلة بها، وذكره هذه الآية بعد أن أباح أشياء من هذه العقود، وحرم أشياء دليل على أن العقود من آيات الله، وإلا كان ذكرها عقيب ذلك غير مناسب.
ويعضده أن العقود من آيات الله ما روي عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزءون بآياته؛ طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك (3)» وإذا كانت العقود من آيات الله فاتخاذها هزوا فعلها
(1) الفتاوى الكبرى ص212 وما بعدها ج3.
(2)
سورة البقرة الآية 231
(3)
سنن ابن ماجه الطلاق (2017).
مع عدم اعتقاد حقائقها التي شرعت هذه الأسباب لها، كما أن استهزاء المنافقين أنهم {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (1) فيأتون بكلمة الإيمان غير معتقدين حقيقتها بل مظهرين خلاف ما يبطنون، فكل من أتى بالرجعة غير قاصد بها مقصود النكاح بل التحليل أو نحوه، فقد اتخذ آيات الله هزوا، حيث تكلم بكلمة العقد وهو غير معتقد للحقيقة التي توجبها هذا الكلمة من مقصود النكاح، فهو والمنافق في أصل الدين سواء، غير أن المنافق في أصل الدين، وهذا منافق في شرائعه، فقول الإنسان: آمنت، كقوله: تزوجت، هو إخبار عما في باطنه من الاعتقاد المتضمن التصديق والإرادة من وجه، وهو إنشاء لعقد الإيمان وعقد النكاح من حيث هو يبتدئ الدخول في ذلك من وجه، فإذا لم يكن صادقا في الإخبار عما في باطنه؛ لأنه لا تصديق ولا إرادة ولا هو داخل في حقيقة الإيمان والنكاح بل إنما تكلم بكلمة، ذلك لحصول بعض الأحكام التي هي من توابع ذلك، فليس صادقا لا من حيث الإنشاء ولا من حيث الإخبار.
وإذا ثبت أن التحليل من اتخاذ آيات الله هزوا ثبت أنه حرام، ويلزم من تحريمه فساده بإبطال مقصود المحلل من ثبوت نكاحه، ثم نكاح المطلقة، كما ثبت أن الهازل لما كان يقصد عدم النكاح بطل مقصوده، فصح نكاحه كذلك.
(1) سورة البقرة الآية 14
المسلك التاسع من مسالك الاستدلال على إبطال التحليل (1):
أن الله تعالى حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، ومعلوم أن الله حرم ذلك لاشتمال هذا التحريم على مصلحة المعتدة وحصول مفسدة في حلها له بدون الزوج الثاني وابتلاء وامتحانا لهم؛ ليميز من يطيعه ممن يعصيه، وقد كان الطلاق في الجاهلية من غير عدد. فكلما شاء الرجل طلق المرأة، ثم راجعها فقصر الله الأزواج على ثلاث تطليقات؛ ليكف الناس عن الطلاق ولا يقدمون عليه إلا عند الضرورة؛ فإن الرجل إذا علم أن المرأة تحرم عليه بالطلاق
(1) الفتاوى الكبرى ص215 جـ3.
كف عنه إلا إذا كان زاهدا فيها، فإذا كان هذا التحريم يزول بهذا الطريق السهل، وهو أن يرغب إلى بعض الأراذل في أن يطأ المرأة ويعطي شيئا على ذلك؛ فإن هذا أقرب منه إلى اللعب منه إلى الجد، فما أكثر من يريد أن يطأ ويبذل، فكيف إذا أعطي على ذلك جعلا؟
فإن قيل: إن هذا النكاح حلال كان معنى هذا أن المرأة تحرم على زوجها حتى ينزو عليها فحل من الفحول، وإن لم يكن له رغبة في نكاحها بل يعطي على ذلك جعلا، فكان قد ادعى أن الله حرم المطلقة حتى توطأ وطئا شبيها بالزنا، بل هو زنا كما سماه ابن عمر: بأن هذا سفاح. ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول: إن المطلقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه، ورأى أن ذلك هو معنى الزنا، وحسب أن هذا من الدين المأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تجاهل بإظهار ذلك أخذ يعير المسلمين بهذا ويقول: إن في دينكم أن المطلقة تحرم حتى تزني، وإذا زنت حلت، حتى اعتمد بعض أعداء الله النصارى فيما يهجو به شرائع الإسلام على مسألة التحليل، أخذ ينفر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بها، وما يعلم عدو الله أن هذا لا أصل له في الدين، ولا هو مأخوذ عن السابقين ولا عن التابعين لهم بإحسان، بل قد حرمه الله ورسوله.
وبالجملة فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له تيس من التيوس، لا يرغب في نكاحه ولا في مصاهرته ولا يراد بقاؤه مع المرأة أصلا فينزو عليها وتحل بذلك؛ فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح، فكيف يكون الحرام محللا؟ أم كيف يكون الخبيث مطيبا؟ أم كيف يكون النجس مطهرا؟ وغير خاف على من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل فضلا عن شرائع الأنبياء، لا سيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يشرع مثل هذا.
هذه هي أدلة الطرفين على المتنازع فيه، وبهذا ظهر الحق وزهق الباطل، وتبين لكل من له نظر سليم وذوق ليس بسقيم بأن رأي الجمهور الذي تبناه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية ودافع عنه هو الرأي المعقول، الذي يتعين الأخذ به