الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د-
سبب اختلاف فقهاء الصحابة في بعض الأحكام:
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا مجال للاختلاف في الأحكام بإطلاق، وذلك نظرا إلى وحدة التشريع وتركيز الفتوى والقضاء في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أما في عصر الصحابة فقد تغيرت الحال: فأصبحت الأحكام طائفتين:
طائفة: هي محل وفاق بينهم، وطائفة اختلفوا فيها باختلاف وجهات أنظارهم في القاعدة التي تحكم الحادثة المعروضة أو الواقعة.
ولكن مهما كان الاختلاف موجودا في عهد الصحابة؛ فإنه أضيق دائرة من اختلاف من جاء بعدهم وكانت أسباب اختلافهم ترجع إلى أمور أهمها ما يلي:
1 -
الاختلاف في فهم القرآن:
فقد يكون اللفظ الوارد فيه مشتركا بين معنيين، فيحمله أحدهم على أحد المعنيين، ويحمله الآخر على المعنى الثاني لقرينة تظهر له، فقد اختلفوا في تفسير لفظ القرء الوارد في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1). لأن القرء في اللغة يطلق على الحيضة والطهر.
وقد ذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن عدة المطلقة لا تنتهي إلا باغتسالها من الحيضة الثالثة؛ لأنه يرى أن القرء هو الحيضة، وهو رأي عمر أيضا، ولكن زيد بن ثابت يرى أن القرء هو الطهر، ولهذا ذهب إلى أن العدة تنتهي متى دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة دون أن تنتظر حتى تطهر منها (2).
وأحيانا يكون الخلاف راجعا إلى حمل اللفظ الوارد في القرآن على الاشتراك المعنوي، كما في مسألة الجد والإخوة؛ فإن من حجب الإخوة به رأى أن معنى الأبوة متحققة فيه كما قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ} (3) وهو الجد
(1) سورة البقرة الآية 228
(2)
الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين ص59.
(3)
سورة الأعراف الآية 26
الأول للبشرية جمعاء. وكما في قوله عز وجل عن يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (1).
ومنهم من رأى عدم الاشتراك بتسميته جدا، ونظر إلى معنى آخر وهو اشتراك الجد والإخوة في قربهم من الميت باستواء.
وأحيانا يكون الاختلاف راجعا إلى تعارض نصين عامين في القرآن، فقد ذهب عمر وابن مسعود إلى أن الحامل المتوفى عنها زوجها تكون عدتها وضع الحمل، وذهب علي وابن عباس إلى أنها تعتد بأبعد الأجلين (وضع الحمل أو عدة الوفاة). وسبب الخلاف أن قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) يدل على أن عدة الحامل وضع الحمل.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3). يفيد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام من غير تفصيل بين الحامل وغيرها، فذهب علي وابن عباس إلى العمل بالآيتين معا، فتكون كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى، وذهب عمر وابن مسعود إلى أن آية:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} (4) خاصة بغير الحامل؛ لتأخير آية: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} (5)
والصواب ما ذهب إليه عمر وابن مسعود بلا شك؛ لحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية، «فقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة رضي الله عنه في حجة الوداع، وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها (أي: طهرت من نفاسها) تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك (رجل من بني عبد الدار) فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرة. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله
(1) سورة يوسف الآية 38
(2)
سورة الطلاق الآية 4
(3)
سورة البقرة الآية 234
(4)
سورة البقرة الآية 234
(5)
سورة الطلاق الآية 4
صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي (1)».
2 -
الاختلاف في أمور تتصل بالسنة:
إن من الصحابة المقل ومنهم المكثر في محفوظه من السنة المطهرة، فقد كان فيهم الملازم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشغله شاغل عنها، ومنهم من شغله الصفق في الأسواق طلبا للرزق الذي أباحه الله عز وجل وآخرون يقاتلون في سبيل الله، في السرايا التي كان ينظمها النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ولتعليم الناس دين الله عز وجل، ولجباية الزكوات، ولا ريب أن ذلك سيكون له أثر في الأحكام التي يفتي بها كل من هؤلاء وهؤلاء، ولهذا كان بعض الصحابة إذا أفتى برأيه واستبانت له السنة رجع عنه. ومن ذلك: ما روي أن أبا موسى الأشعري. رضي الله عنه أفتى برأيه في ميراث بنت الابن مع البنت والأخت فقسم المال بين البنت والأخت نصفين ولم يفرض لبنت الابن شيئا. وقال للسائل: وائت ابن مسعود فسيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتيا أبا موسى فأخبراه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
(1) خرجه البخاري 9/ 469 بشرح فتح الباري 3/ 704 - 705 والسياق لمسلم. بشرح النووي.
3 -
الاختلاف في الرأي:
علمنا من طريقتهم في الاستنباط أنهم رضي الله عنهم إنما يلجئون إلى العمل بالرأي إذا لم يجدوا نصا من كتاب أو سنة، ومما لا شك فيه أن الرأي يختلف باختلاف الناظرين؛ وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم التي اختلفت وجهات نظرهم فيها إنما مردها إلى اختلاف منازعهم في المأخذ، ولكل وجهة هو موليها.
ومع أنه قد حصل شيء من الاختلاف فيما بينهم من جهة الرأي فقد كان شيئا قليلا بالنسبة لمن بعدهم ويرجع ذلك إلى الأمور الآتية:
1 -
تيسر الإجماع في هذا الدور؛ لأن المفتين من الصحابة، وكبارهم كانوا مجتمعين في المدينة عاصمة الخلافة آنذاك، وقد ساعد على ذلك أن عمر كان ينهاهم عن الخروج من المدينة إلا بإذنه وعند الحاجة الشديدة.
2 -
تمسكهم بمبدأ الشورى، وهو من الأمور التي لا يجد الخلاف معها سبيلا في الغالب.
3 -
قلة روايتهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الوقوع في الكذب، ولهذا كانوا يتشددون في قبولهم، فأبو بكر وعمر كانا يطلبان شاهدا خلاف الراوي (أحيانا)، وروي عن علي قوله:" كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته ".
4 -
قلة الحوادث في عصرهم، وتورعهم عن الفتيا، فقد كانوا يميلون على بعضهم، يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتيا، ويود كل واحد منهم أن يكيفه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها من الكتاب أو السنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى (1).
(1) الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين 61 - 62 وارجع إلى كلام ابن القيم في إعلام الموقعين 1/ 33.