المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا الدور وأسبابها: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الافتتاحية:

- ‌حكم الاختلاط في التعليم

- ‌ما هكذا الدعوة إلىإصلاح الأوضاع يا حمد

- ‌ قاعدة سد الذرائع

- ‌ الأسباب المادية والأسباب الروحية:

- ‌ نصوص وآثار جزئية في موضوع البحث ونقول عن العلماء في ذلك:

- ‌ حدود المسجد شرعا

- ‌ هل الطرقات تدخل في المواضع المنهي عن الصلاة فيها

- ‌ صلى الجمعة خارج المسجد

- ‌ دخل الإنسان المسجد بعد أذان الظهر وقبل أن تقام الصلاة، فهل تسقط عنه تحية المسجد

- ‌ يصلي بأطفاله وعائلته في كل وقت إذا كان لا يوجد عنده جماعة ولا مسجد

- ‌ الدف وتحية المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب

- ‌ مصافحة الإمام بعد الصلاة

- ‌ الصلاة في البدلة المكونة من جاكيت وبنطلون

- ‌ الأذان الأول يوم الجمعة

- ‌ امتنع عن الصلاة ثم ندم وصلى؟ هل يقضي ما فاته من الصلوات

- ‌ قضاء الصلاة على من تركها عمدا

- ‌ الصلاة في القطار

- ‌ هل يمكن للرجل أن يصلي في بيته بدون عذر شرعي

- ‌ صلاة الجماعة واجبة على الرجال

- ‌ لا يصلي أحد إماما بالناس في مسجد له إمام راتب إلا بإذنه

- ‌ إلقاء الخطبة يوم الجمعة بغير العربية

- ‌ هل تجب صلاة الجمعة على الطلبة الذين يدرسون في الخارج

- ‌أطوار الاجتهاد الفقهي

- ‌ توطئة

- ‌الطور الأول من أطوار الاجتهاد في:عهد الخلفاء الراشدين:

- ‌ أسباب ترك الصحابة الافتراض في الأحكام:

- ‌ طريقة الصحابة رضي الله عنهم في استنباط الأحكام:

- ‌ سبب اختلاف فقهاء الصحابة في بعض الأحكام:

- ‌ خلاصة ما تقدم:

- ‌الطور الثاني:عصر الأمويين

- ‌الطور الثالث من أطوار الاجتهاد الفقهي

- ‌ الربط بين هذا الدور والدور الذي قبله

- ‌ بدء نشوء الأخذ بالظاهر والمعني أو مدرستي الظاهر والرأي:

- ‌ التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا الدور وأسبابها:

- ‌موقف الشريعة الإسلامية من نكاح التحليل

- ‌تمهيد:

- ‌آراء العلماء في نكاح التحليل:

- ‌أدلة القائلين بجواز نكاح التحليل ومناقشتها

- ‌الدليل الثاني:قالوا: إنما شرط في عودها للأول بمجرد ذوق العسيلة بينهما حلت له بالنص

- ‌الدليل الثالث:قالوا: إنه نكاح خلا من شرط يفسده، فأشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإحلال

- ‌أدلة الجمهور:

- ‌الزواج مع شرط التحليل أو قصده حرام

- ‌اهتمام علماء المسلمينبعقيدة السلف - ظروفه - وآثاره

- ‌الاهتمام بعقيدة السلف:

- ‌السلف والخلف:

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌ وجود طوائف غير مسلمة في المجتمع الإسلامي:

- ‌ الاتصال بالثقافات الأخرى:

- ‌عصر الجدل والمناظرات:

- ‌علم التوحيد والتأليف في قضاياه:

- ‌آثار هذه المرحلة:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌أولا: ذبول الحس الإسلامي:

- ‌ثانيا: فساد المعتقدات:

- ‌ثالثا: انتشار الفساد بين العلماء:

- ‌زيد بن حارثة الكلبي القائد الشهيد

- ‌نسبه وأيامه الأولى:

- ‌إسلام زيد:

- ‌في الطائف:

- ‌الهجرة:

- ‌في غزوة بدر الكبرى:

- ‌قائد سرية القردة:

- ‌سرية زيد إلى سليم بالجموم

- ‌قائد سرية العيص:

- ‌قائد سرية الطرف:

- ‌قائد سرية حسمى:

- ‌قائد سرية وادي القرى:

- ‌قائد سرية أم قرفة بوادي القرى:

- ‌قائد سرية مؤتة

- ‌الإنسان:

- ‌القائد:

- ‌زيد في التاريخ:

- ‌ابن خلدون وريادته لعلم تفسير التأريخ

- ‌ابن خلدون رائد عصر جديد في فقه التاريخ:

- ‌ابن خلدون رائد فلسفة التأريخ

- ‌الشروط الأساسية لتفسير التأريخ

- ‌قوانين ابن خلدون الحضارية وتقويمها

- ‌العقيدة الطحاويةتعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌الشريعة الإسلامية منهاج رباني

- ‌توضيح حولعمل المرأة

- ‌ غلاء المهور

- ‌ استثمار الأموال في البنوك

- ‌ النظر إلى وجه زوجة الأخ

- ‌ استعمال حبوب منع الحمل لتأخير الحيض عند المرأة في شهر رمضان

- ‌ قراءة القرآن أثناء الدورة الشهرية

- ‌ تغطية المرأة رأسها أثناء قراءة القرآن

- ‌ حكم إقامة أعياد الميلاد

- ‌سماحة الشيخ يحذر من بعض الكتب

- ‌كشاف مجلة البحوث الإسلاميةمن العدد الأول إلى الخامس عشر

- ‌مقدمة

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌الأحكام الشرعية

- ‌كشاف المؤلف

- ‌كشاف العنوان

الفصل: ‌ التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا الدور وأسبابها:

على أصلها لعدم الحاجة إلى الرأي بسب قلة الحوادث وكثرة النصوص، والثقة بصدقها؛ لعدم الكاذبين الضالين هناك، وأهل هذه المدرسة هم أهل الحديث أو أهل المدينة، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.

ثانيا: تكثر من الاجتهاد بالرأي وتشترط شروطا كثيرة وشديدة لقبول الحديث، لا يسلم معها إلا القليل.

وينجم هذا من حال البلد الذي يعيش فيه هذا العالم، وحال الصحابي الذي اختار هذا البلد مسكنا له حين هاجر من الحجاز، وما عليه أهل البلد من أعراف في شئونهم المختلفة.

وبذلك تأسست المدارس الفقهية الإسلامية.

وفي كل مصر كان علماء من الصحابة والتابعين وأئمة بعدهم لهم لغتهم وعلمهم وروايتهم وآراؤهم وتلاميذهم، ومع هذا وسعت مبادئ الشريعة والاجتهادات والآراء حتى عمت رحمتها وعدالتها كل الناس.

ولا ريب أنه كلما كان العهد قريبا بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ومعاني التنزيل حتى شرحها والفتاوى والأحكام التي صدرت منه، كانت الأحكام التي تؤسس على هذا المنهج على كمالها: علما وحفظا وفهما وسنة وعربية، وخشية من الله عز وجل، هي النبراس الذي يضيء الطريق، والهادي الأمين إلى الحياة الشرعية التي يريد الله تعالى أن يكون عليها البشر في هذه الدار.

ص: 128

جـ-‌

‌ التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا الدور وأسبابها:

وقد حدثت في هذا الدور الذي نكتب فيه تغيرات طرأت على الاجتهاد الفقهي، نلخص بعضا من ظواهرها فيما يلي:

أولا: عناية الخلفاء العباسيين بالفقه والفقهاء، فقد كانوا لا يقصرون همهم على النواحي السياسية وحسب كما كان الشأن في العهد الأموي، بل كان اهتمامهم بالفقه والفقهاء يتخذ أشكالا متعددة، فمنهم من يدني الفقهاء ويؤثرهم بخاصته كأبي جعفر المنصور، ومنهم من يتعقب الزنادقة ويشتد في

ص: 128

تعذيبهم، حتى أنشأ دائرة متخصصة للبحث عنهم، والتنكيل بهم (1).

وكان الرشيد يخص أبا يوسف بالصحبة والملازمة، والمأمون يشاطر العلماء الجدل العلمي، ويستنهض همهم إلى النقاش الحاد، ويثير القول بخلق القرآن، تلك الفتنة العمياء التي كانت نكتة داكنة في تاريخ المأمون لن تنسى مهما كانت محاسنه. وامتحن فيها علماء سلف الأمة وأئمتها، وكان أشدهم أذى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حيث عذب عذابا لم ينله أحد قبله، وكان صابرا محتسبا ثابتا على الحق.

وقد كان لهذه العناية من الخلفاء الأثر الواضح في التشريع إذ اتسع مجال الفقه وغدا المحور الذي تدور عليه وحوله شئون الدولة في جميع المجالات، فكتاب الخراج لأبي يوسف من ثمار هذا النشاط، وقد عالج أبو يوسف فيه كل ما يتعلق بجباية الأموال.

بل إن الأمر تجاوز معالجة واقع الناس إلى افتراض المسائل وتقدير أحكام لها حتى تضخم الفقه، ونما نموا عظيما، شاهده ما حفلت به المدونات الفقهية في ذلك العصر.

(1) ضحى الإسلام لأحمد أمين 163.

ص: 129

ثانيا: اتساع الجدل وشيوع الخلاف:

لقد امتازت هذه الفترة ببلوغ الجدل فيه أشده، واتساع مداه؛ لكثرة العلماء وانفراج الحياة الاجتماعية عما كانت عليه من قبل والتوسع في الرأي، والاعتماد عليه في القياس واستمداد أساليب الجدل من المنطق. وكان الجدل بين العلماء يدور حول تحديد معاني الألفاظ اللغوية، وحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز حول الكتاب بالسنة والعكس، وعمل الصحابي أهو حجة أم لا؟ والقياس ومداه ومتى يصح ومتى لا يصح، إلى غير ذلك مما يعتمد عليه الفقيه في الاستنباط واستخراج الأحكام.

ومما يؤكد لنا شغف القوم بالجدل والمناظرة أن كل مكان يلتقي فيه العلماء تدور بينهم المناقشات الجدلية والنظرية سواء في حلقات الدروس، أو المنازل أو في المساجد أو في مواسم الحج أو غيرها بالمكاتبة أو المشافهة

ص: 129

واقرأ من أوثق المدونات في أوائل هذا العصر: الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي والرسالة كذلك تجد أثر هذا الأسلوب جليا واضحا في تأليفهما، واقرأ ما شئت سواهما من كتب هذا العهد التي زخرت بتلك المناظرات، حتى كانت مرآة صافية تعكس عقلية أولئك العلماء وقوة ذهنهم وقدرتهم على التركيز؛ لما يفهمونه من الأحكام، وحتى ساعدت المتأخرين على معرفة وجه الرأي بين أسلافهم، وهدتهم إلى مآخذ الحكم عند كل فريق. وكان غذاء للروح العلمي فيما بعد، غير أن تلك المناظرات لم تنقل كلها إلينا على حقيقتها بل تناولها المتأخرون بالتحوير والتحريف، بل ربما اختلقوا مناظرات ونسبوها إلى الأولين ترويجا لمذهبهم واستجابة لداعي العصبية المذهبية.

من سيئات الجدل في هذا الدور:

بعد أن كان الجدل يقصده العلماء للوصول إلى الحق فحسب أصبح في هذا الدور يستخدم كثيرا؛ لمجرد التغلب على الخصم، وتزييف مذهب المخالف حتى انحرف عن السنن، وحشد فيه ما لا يتصل بجوهر الموضوعات، ولذلك نرى كثيرا مما وصل إلينا غريبا على العلم، وزائدا عن الحاجة.

نموذج للمناظرات التي كانت تجري بين العلماء في هذا الدور:

روى الفخر الرازي: " أن محمد بن الحسن. (صاحب

ص: 130

أبي حنيفة) قال للشافعي يوما: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب. قال الشافعي: أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة، قال: فناظرني. . . قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها جدارا وأنفق عليها ألف دينار فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟

فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي - وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.

قال محمد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينة، ووصلت السفينة إلى لجة البحر فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين، أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قال: لا. قال (محمد): الله أكبر تركت قولك. ثم قال (محمد): ما تقول في رجل غصب خيطا من إبريسم فمزق بطنه، فخاط بذلك الإبريسم تلك الجراحة، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال: لا. قال (محمد): الله اكبر تركت قولك. وقال أصحابه أيضا: تركت قولك.

قال الشافعي: فقلت: لا تعجلوا، أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه، ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم

ص: 131

محرم عليه؟ قال: يحرم عليه. قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه، وأراد أن ينزعه من بطنه، ويقتل نفسه، أمباح له ذلك أم محرم؟ قال: بل محرم، قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة، وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح. قال الشافعي: فكيف تقيس مباحا على محرم؟ قال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له: انزع اللوح وادفعه إليه. فقال محمد بن الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (1)» فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه. ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة، ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء، فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له، ماذا تعمل؟ قال محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل. قال الشافعي: أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا؟ أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها، أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن.

هذه المحاورة بين هذين الإمامين أنموذج حي لما كان يجري من مجالس علمية، تمتحن فيها أصول كل إمام بما يقرر من جزئيات، فهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول لمحمد بن الحسن (. . فكيف تقيس مباحا على محرم؟) ويقول أيضا لما قال له محمد بن الحسن رحمه الله ك: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ وأجابه: فقال محمد بن الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (2)» . أي: وأمر صاحب السفينة بتسييرها إلى الساحل؛ لنزع اللوح المغصوب ضرر عليه. فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه. فبين أن هذا الحكم مستثنى من قاعدة: لا ضرر ولا ضرار. ثم أجرى موازنة بين مفسدة استرقاق الأحرار العشرة الذين ولدتهم الزنجية المغصوبة وبين مفسدة هدم الجدار المقام على الأرض المغصوبة، وأن المفسدة الأولى أعظم من المفسدة الثانية باتفاق، ولهذا انقطع محمد بن الحسن رحمهما الله.

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 327).

(2)

سنن ابن ماجه الأحكام (2340)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 327).

ص: 132

هذه المناظرة واحدة من عديد المناظرات التي تجري بين العلماء في ذلك العصر، وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية وسعت دائرة الاجتهاد الفقهي والحركة الفقهية، وتكون منها آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم، فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدثون يتسلحون بالرأي، وقربت كثيرا من أوجه النظر المتباعدة، وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن في النموذج المتقدم آنفا، فكلاهما اطلع على الناحيتين وتسلح بالسلاحين. هذا ولم يقتصر الأمر على المناظرات الشفوية بل تجاوزها إلى المكاتبة، فهذا الليث بن سعد. يكتب من مصر إلى مالك بالمدينة يجادله في حجية عمل أهل المدينة، ويرد عليه مالك (1).

(1) جواب الليث على رد مالك ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 3/ 83.

ص: 133

ثالثا: اتساع الدولة وكثرة الوقائع

ضمت الدولة الإسلامية في هذا العهد شعوبا وأمما مختلفة في الدين والحضارات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية وطرق المعيشة، وفي أنواع كثيرة من المعاملات، ففي العراق سادت العادات الفارسية والقبطية وغيرها، فمن دخل في الإسلام، عرض ما قد كان عليه قبل الإسلام على أبي حنيفة مثلا، وفي الشام عرضت الأوضاع الرومانية ونظم القضاء الروماني وقضاياه على الأوزاعي وفي مصر عرضت العادات المصرية والرومانية والإغريقية على الليث بن سعد.

ص: 133

وقد عمل هؤلاء الفقهاء وغيرهم على تمحيص ما عرض عليهم، فأقروا بعضه وعدلوا بعضه، وأنكروا بعضه على ضوء ما عندهم من علم شرعي، حتى غدت الحياة العامة في كل إقليم ومصر مصطبغة بالصبغة الإسلامية.

ومما ساعد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر أن كل قطر من الأقطار المفتوحة وجدت فيه أحكام لم تكن موجودة في غيره؛ نظرا لاختلاف البيئات والفوارق الإقليمية، فلقد أحس العلماء في كل إقليم بحاجتهم إلى التعرف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهية، فنشأت الرحلات العلمية، فالشافعي رحل إلى المدينة والعراق ومصر. وربيعة الرأي رحل إلى العراق، ورحل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة، ورحل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن، فآتت هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثير من أوجه الخلاف، وأشعرت كلا بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه.

ص: 134

رابعا: نمو الحركة العلمية

كان بدء هذه الحركة في أواخر الدور السابق، لكنها في هذا الدور نمت نموا عظيما بوصول المدنيات القديمة إلى رؤوس المفكرين من علماء المسلمين، وقد ساعد على وصول هذه المدنيات عوامل أهمها:

أ- ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى لغة العرب، ولم تبلغ الترجمة شأوها إلا في عهد المأمون بن الرشيد في القرن الثالث من الهجرة إذ كان مغرما

ص: 134

بالآداب اليونانية وبآراء أرسططاليس على وجه خاص، ولقد انتشرت هذه الكتب انتشارا هائلا، فكانت العامل المهم في تكوين معلومات أهل الكلام.

ب- الموالي فقد دخلوا في الإسلام بأعداد عظيمة من الفرس والروم والمصريين. فمنهم من أسر صغيرا، وتربى تحت كنف سادته من المسلمين، فورثوا ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة، فحملوا عنهم شيئا كثيرا، وكان منهم القراء الكبار والمحدثون بجانب إخوانهم من العرب.

ومنهم من دخل في الإسلام وهو كبير، فكان من نتيجة ذلك تلاحم الأفكار وإنضاج العقول.

ص: 135

خامسا: التدوين.

سوف نعنى هاهنا بما يتصل بالتدوين لأصول الفقه إذ هو الموضوع الذي عقدت هذه الدراسة التاريخية من أجله.

أما التدوين من حيث هو فحسبنا أن نشير إلى أن عمر بن عبد العزيز. الخليفة الأموي رضي الله عنه كتب قبل موته بسنة إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.

ص: 135

كما أن التدوين من حيث هو تدوين بصرف النظر عن ترتيبه وتنظيمه والاهتمام به على النحو الذي وصل إليه في عهد التدوين الزاهي - كان موجودا على حياة رسول صلى الله عليه وسلم فقد خرج أحمد في مسنده، «عن عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهته قريش عن كتابة كل ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبه، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق (1)» .

وقد جمع العلماء بين نهيه (2) صلى الله عليه وسلم عن الكتابة، وأمره ثانيا بها: بأن النهي كان قبل أن يميز الصحابة بين ما هو قرآن وبين غيره من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما تميز عندهم زال المحذور، فأذن عليه الصلاة والسلام بالكتابة عنه.

وأرى من المفيد أن نمر بالقارئ على موجز ما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله. حيث ذكر أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة، وعلل ذلك بأمور ثلاثة:

1 -

نهي النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.

(1) سنن أبو داود العلم (3646)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 162)، سنن الدارمي المقدمة (484).

(2)

عن تاريخ التشريع الإسلامي للسبكي وزميله ص 212.

ص: 136

2 -

سعة حفظهم وسيلان أذهانهم.

3 -

ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة.

ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار وعلل ذلك:

1 -

بانتشار العلماء في الأمصار.

2 -

ظهور فرق المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة.

ويبين أن أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (1). وسعيد بن أبي عروبة (2). وغيرهما.

وكانوا يصنفون كل باب على حدة. إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة (وأهل هذه الطبقة هي التي اصطلحنا على إدماجها ضمن فئات الدور الرابع من أدوار الاجتهاد الفقهي) فدونوا الأحكام. فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.

وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمر وأبو عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري. بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار

(1) مجاهد صالح توفي غازيا في بحر السند سنة 160 هـ

(2)

وفاته سنة 156 هـ ولهما ترجمة في تهذيب التهذيب. محب الدين الخطيب حاشية الهدي الساري ص 6.

ص: 137

بالبصرة. . . إلخ (1).

هذه إشارات عابرة إلى بداية التدوين وتطوره، أرجو أن يطلع منها القارئ على ما يهديه إلى نشأة هذا النشاط واهتمام السلف الصالح به.

(1) تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص 291.

ص: 138