الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجانب الرجل في سلوك هؤلاء الصوفية، وقد استعدى هؤلاء الصوفية بعض الحاقدين على شيخ الإسلام فاتهموه بآراء في العقيدة تخالف منهج السلف، وحكموا فيه خصومه وساقوه إلى الحبس (1)، ولكنه لم يكف عن بيان الحق لهم ولغيرهم، وما كان هذا ليمنعه عن أداء رسالته، فقد التقى بصوفي في القاهرة يدعى إبراهيم القطان، وكان مخالفا للسنة في مظهره، وكان يأكل الحشيشة التي تغيب العقل، فأرشده ابن تيمية إلى الحق، ونهاه عن كل المخالفات حتى يتعرض لفضل الله ورحمته، وغير هذا كثيرون ممن تظهر أقوالهم وأعمالهم فساد المعتقد، أو غش الأمة والتلبيس على أهلها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1) البداية والنهاية / 14/ 31 - 33.
ثالثا: انتشار الفساد بين العلماء:
ذلك أن هذا العصر ضم اتجاهات مختلفة يغلب على معظمها التقليد للسابقين، وبخاصة في العقائد، الأمر الذي يظهر في بعض الشروح التي وصلت إلينا من هذا العصر (1) لكن هذا لم يمنع من وجود بعض الفلاسفة، وأصحاب النزعة الفلسفية، فما التصوف بما تحويه من اعتقادات مخالفة لعقيدة السلف الصالح، وهذا وذاك كان لهما الأثر في وجود بعض الانحرافات في سيرة العلماء وموقفهم من الإصلاح والدعوة إلى تنقية العقيدة مما شابها من بدع وأهواء، ولكن أقسى شيء في هذه الانحرافات هي أن يتدنى العلماء إلى مغبة المكائد لبعضهم طلبا للجاه والسلطان، وما ذلك إلا لأن بعض العلماء كان خادما لاتجاه سياسي علا أو هبط، وهذه بعض مظاهر الفساد في الموضع الذي يرجى منه الإصلاح.
1 -
فقد امتحن ابن تيمية من جماعة من الفقهاء حين أشاعوا غير الحق عن كلامه لأهل حماة في العقائد المسمى بالعقيدة الحموية، ولما أراد ابن تيمية أن يناظرهم وأرسل لهم الأمير هربوا ولم يحضروا، وظل الأمر كذلك حتى عقد ابن تيمية مجلسه يوم الجمعة عند جماعة من الفضلاء وبحثوا في
(1) أبو زهرة / تاريخ المذاهب الإسلامية / 2/ 453.
الحموية وناقشوه فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير (1).
فانظر كيف يشيع العلماء وهم أهل الحق باطلا؛ لينالوا به من عالم ظنوه يزاحمهم على الدنيا، والرجل من هذا الأمر براء، كما تشهد سيرته ومحنته.
فإذا أضفنا إلى هذا ما سجله ابن كثير في حوادث عام (701 هـ) كانت النكبة أشد فيما وصل إليه العلماء، وفي هذا الشهر (شوال) ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية، وشكوا منه أنه يقيم الحدود، ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك، وبين خطأهم، ثم سكنت الأمور (2).
2 -
ولو كان الأمر يقف عند حد الاتهام لهان الأمر إذ يمكن أن يقال: إنه داخل في باب الاجتهاد الذي يخطئ صاحبه، أما أن يصل الكيد إلى حد التزييف والكذب، فهذا هو الخطر الحقيقي، وقد حدث ذلك في سنة (726 هـ) عندما سئل ابن تيمية من عالمين عن مضمون قوله في مسألة زيارة القبور فكتب ذلك في درج، فكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: وإنما المحز جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء - صلوات الله عليهم - معصية بالإجماع مقطوعا بها.
ويقول ابن كثير معلقا: " فانظر الآن على هذا التحريف على شيخ الإسلام ويحكي حقيقة قوله، وأن كتبه تفيض بغير ما حرفوا، وفهمه لم يكن ليصل إلى ما اتهموه به من قوله: الإجماع على معصية هذا "(3).
3 -
الإفتاء بغير علم، وكان من آفة الفساد في العلماء أن يتكلم بعضهم فيما لا علم له به، فابن زهرة المغربي اقترف هذا الفساد سنة (712 هـ)، فطيف به في دمشق وهو مكشوف الرأس، ووجهه مقلوب،
(1) البداية والنهاية / 14/ 4.
(2)
البداية والنهاية / 14/ 17.
(3)
البداية والنهاية / 14/ 108.
وظهره مضروب، ينادى عليه: هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة (1).
وقريب من هذا: ما كان يفعله بعض المنتسبين من التكفير للناس بأدنى ملابسة، ففي المحرم من سنة (714 هـ) استحضر السلطان بين يديه الفقيه نور الدين علي البكري وهم بقتله فشفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الفتوى والكلام في العلم. . . وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل، والجهل الحامل له على هذا وغيره، فانظر إلى حال من قاده جهله إلى الحجر عليه في عمله الذي به قيمته لأنه لم يحسنه، فقيمة كل امرئ ما يحسنه.
(1) البداية والنهاية / 14/ 57.
تعقيب:
ولعل لنا في اعتبارهما مرحلتين فهما جعلنا نعتبر الحركة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب امتدادا وتجديدا لمرحلة ابن تيمية، وذلك أننا نلحظ في الكتب التي صنفت في العقائد بعد الشيخ ابن عبد الوهاب، نلحظ فيها تشابها كبيرا مع ما حملته إلينا رسائل ابن تيمية وفتاواه، وهذا ليس بمستغرب، بل هو الطبيعي؛ لأن الهدف من هذه الحركة الإصلاحية إنما هو تجسيد عملي لما تغياه ابن تيمية في جهاده في عصره.
ولعل ما قدمناه من ظروف المرحلتين وتشابههما إلى حد كبير يصلح إجابة للسؤال الذي انطلق من ملاحظة المؤلفات ذات الاهتمام بالعقيدة السلفية، فتفرق الفرق واضطراب الأحوال ووجود أصحاب الأهواء، وانتشار البدع، وادعاء المهدية والنبوة، ثم فساد أحوال العلماء نتيجة المعصية المهدية وتسرب لعصم الأفكار من الترجمة إليهم في المرحلة الأولى، وطلبا للدنيا، وفقدانا لرسالة العلم، وأمانة العالم في المرحلة الثانية، وكذ الأولى.
كل هذا في جو مضطرب لا تقدم الدولة فيه عملها الأساس في الحفاظ على دينها، هذا وغيره من أسباب جعلت العلماء المخلصين لدينهم وأمتهم
يقدمون ما يستطيعون في باب خدمة عقيدة السلف الصالح، إيمانا منهم بأن هذه الأمة لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وقد كان التزام الناس بالإسلام أول عهدهم به وزمن الرسول والراشدين من بعده، سببا أساسيا في حضارة الأمة وريادتها الأمم الأخرى، وبقدر ما انحلت رابطة الالتزام بين المسلمين والإسلام بقدر ما تقهقروا وصاروا فريسة لغيرهم، لا عن قلة يحدث لهم ذلك، ولكن مصداق قول الرسول الكريم: غثاء كغثاء السيل «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل ولينزعن من صدور عدوكم المهابة وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا وكراهية الموت (1)» .
والله المستعان وإليه المرجع والمآب.
(1) رواه أبو داود في سننه / 4/ 483، كتاب الملاحم. وأخرجه أبو نعيم في الحلية / 1/ 182. والحديث بمجموع طرقه صحيح.