الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هـ-
خلاصة ما تقدم:
ويتلخص لنا مما سلف:
1 -
واقعية التشريع وارتباطه بالحوادث التي تقع وعدم افتراض وقوع حوادث، ثم تقدير أحكام لها، وذلك للأسباب التي ذكرناها.
2 -
قلة المسائل الخلافية؛ لما منحهم الله من الذوق السليم لفهم الشريعة التي شاهدوا مبلغها صلى الله عليه وسلم، وتلقوا تربيتهم على يديه، وواكبوا أسباب التنزيل إلى جانب ما أسلفنا بيانه.
3 -
تفاوتهم في استعمال الرأي، فقد كان من بينهم من يتحرج من الخوض فيه إلا في حالات نادرة، ومنهم من يتوسع فيه إذا لم يجد نصا وينسب الخطأ إلى نفسه، فالأولون كعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والآخرون كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعا. وقد كان هذا الأمر مقدمة لبروز مدرستي الحديث والرأي فيما بعد.
4 -
عدم تدوين الفقه بالمعنى الذي صار إليه في عهد من بعدهم حين بدأ تدوين العلوم الإسلامية، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وإنما هي فتاوى وأحكام محفوظة في الصدور تتناقل عنهم (1) اللهم إلا ما كان من كتابات الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض عماله، ككتابه إلى عمرو بن حزم ببيان أنصبة الزكوات، «وأن لا يمس المصحف إلا طاهر (2)» وما أشبه ذلك مما هو مدون في هذا الكتاب وقد طعن فيه المحققون من أهل الحديث بعدة علل، ومهما يكن من أمر فإن العلماء يسيرون على مضمون هذا الكتاب، مما يشهد لصحته معنى وإن لم يثبت سندا.
ومن ذلك كتابة عمر إلى بعض قضاته، ككتابته إلى شريح القاضي وإلى أبي موسى.
كما أن بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو كان يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثه التي يسمعها منه. ولهذا كان من أكثر الصحابة حظا في تجارة الحديث.
5 -
حدوث اجتهادات قائمة على المصلحة، ولم تكن هذه الأحكام على ما عهد عليه الحال في عهد النبوة ومن ذلك:
1 -
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى ألا تعطى المؤلفة قلوبهم من سهمهم من الزكاة.
(1) الشريعة الإسلامية ص62 - 63.
(2)
موطأ مالك النداء للصلاة (468).
ومبنى هذا الرأي؛ أن الله عز وجل أعز الإسلام وأهله ومكن له في البلاد، وأذل لهم رقاب العباد (1) فقد نظر عمر رضي الله عنه إلى الباعث على الحكم فقرر أنه مؤقت بوصف متى زال ما بنى عليه وهذا الوصف ضعف المسلمين وقوة عدوهم وقد أعزهم الله ومكن لهم في الأرض فليس هناك حاجة إلى الإبقاء على هذا السهم.
وقال آخرون: بل هو باق ونظروا إلى أمرين:
الأول: أن النص القرآني الكريم واضح في هذا، وهو لم ينسخه شيء مع أنه لم يقترن بعلة تدل على وضوح العلة التي أشير لها تبريرا للرأي الأول و (أل) في المؤلفة قلوبهم تؤكد بقاء هذا السهم ما وجد سبب للتألف على الإسلام، وهو رجاء إسلام الكافر بدفعه إليه، أو كف شره، أو نحو ذلك، مما ذكر من دواعي التأليف في كتب الفقه. الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تألف على الإسلام بعد فتح مكة وكسر هوازن في وقت قد أعز الله الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وبين العباد (2).
وهذا ما عليه الجمهور.
2 -
ما صح عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل الطلاق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث طلقات، تبين به الزوجة بينونة كبرى، ولا تحل لمطلقها كذلك حتى تنكح زوجا غيره في نكاح صحيح.
وقال مبينا مبنى رأيه: أن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم عقوبة لهم على تسرعهم في الطلاق إلى أبغض حلال إلى الله.
فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما:
(1) تفسير ابن كثير 2/ 365.
(2)
تفسير ابن كثير 2/ 365.
وعمر رضي الله عنه لم يخف عليه أن السنة ما كان إلى السنتين الأولين من خلافته، وأنها توسعة من الله تعالى لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة لم يملك المكلف إيقاع مرات كلها جملة واحدة كاللعان؛ فإنه لو قال: أشهد بالله أربع مرات أني لمن الصادقين كان مرة واحدة ولو حلف في القسامة وقال: " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتل " كان ذلك يمينا واحدا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال في يومه: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (2)» .
فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة. فهذه النصوص وغيرها مما في معناها مما دل على اعتبار إيقاع المعدود بعدد مرة بعد مرة، هو الذي يدل عليه المعقول من اللغة والعرف.
وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) بابها وتلك النصوص واحد ومشكاتها واحدة.
ومما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما مما كان أمر الطلاق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأتي بعده إجماع يبطله.
ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 668.
(2)
رواه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل التسبيح ص206 البخاري بشرح فتح الباري ج 11 ورواه مسلم في كتاب الذكر.
(3)
سورة البقرة الآية 229
الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل؛ فإنه كان أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر رضي الله عنه أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم.
6 -
أن مصادر التشريع في هذه الفترة هي:
الكتاب. 2 - السنة. 3 - الإجماع. 4 - الرأي بمعناه الأعم.
هذا هو ما أردت أن أتطرق إليه من أهم عوامل تطور أصول الفقه في هذا الدور. والله المستعان.