الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقيدة الطحاوية
تعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي - بمصر. رحمه الله: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين. وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين. نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله. ولا شيء يعجزه. ولا إله غيره.
قوله: (نقول في توحيد الله. . إلخ)
اعلم (أن التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة، وحسب واقع المكلفين.
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنه الخالق الرازق المدبر لأمور خلقه المتصرف في شئونهم في الدنيا والآخرة لا شريك له في ذلك، كما قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (2) الآية، وهذا النوع قد أقر به المشركون عباد الأوثان، وإن جحد أكثرهم البعث والنشور، ولم يدخلهم في الإسلام لشركهم بالله في العبادة وعبادتهم الأصنام والأوثان معه سبحانه، وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة، ويسمى توحد الألوهية، وهي العبادة، وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (3){أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (4) وأمثالها كثير، وهذا القسم يتضمن إخلاص العبادة لله وحده والإيمان بأنه المستحق لها، وأن عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، كما قال الله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (5) الآية من سورة الحج.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز، وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أسماء الله وصفاته، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال سبحانه:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6){اللَّهُ الصَّمَدُ} (7){لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (8){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (9)، وقال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (10)، وقال عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (11)، وقال سبحانه في سورة النحل:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (12)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، ويثبتون معانيها لله سبحانه إثباتا بريئا من التمثيل، وينزهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من التعطيل، وبما قالوا تجتمع الأدلة من الكتاب والسنة وتقوم الحجة على من خالفهم، وهم المذكورون في قوله سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (13) جعلنا الله منهم بمنه وكرمه، والله المستعان.
(1) سورة الزمر الآية 62
(2)
سورة يونس الآية 3
(3)
سورة ص الآية 4
(4)
سورة ص الآية 5
(5)
سورة الحج الآية 62
(6)
سورة الإخلاص الآية 1
(7)
سورة الإخلاص الآية 2
(8)
سورة الإخلاص الآية 3
(9)
سورة الإخلاص الآية 4
(10)
سورة الشورى الآية 11
(11)
سورة الأعراف الآية 180
(12)
سورة النحل الآية 60
(13)
سورة التوبة الآية 100
قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء. لا يفنى ولا يبيد. ولا يكون إلا ما يريد. لا تبلغه الأوهام. ولا تدركه الأفهام. ولا يشبه الأنام. حي لا يموت، قيوم لا ينام. خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة. مميت بلا مخافة. باعث بلا مشقة. مازال بصفاته قديما قبل خلقه. لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزليا. كذلك لا يزال عليها أبديا. ليس بعد خلق الخلق
استفاد اسم (الخالق). ولا بإحداث البرية استفاد اسم (الباري). له معنى الربوبية ولا مربوب. ومعنى الخالق ولا مخلوق. كما أنه محيي الموتى بعدما أحيا. استحق هذا الاسم قبل إحيائهم. كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم. ذلك بأنه على كل شيء قدير، كل شيء إليه فقير. كل أمر عليه يسير. لا يحتاج إلى شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) خلق الخلق بعلمه. وقدر لهم أقدارا. وضرب لهم آجالا. ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم. وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم. وأمرهم بطاعته. ونهاهم عن معصيته. كل شيء يجري بتقديره ومشيئته. ومشيئته تنفذ. لا مشيئة للعباد. إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان. وما لم يشأ لم يكن.
يهدي من يشاء. ويعصم ويعافي فضلا. ويضل من يشاء. ويخذل ويبتلي عدلا. كلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله. وهو متعال عن الأضداد والأنداد. لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره. آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده. وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى. وأنه خاتم الأنبياء. وإمام الأتقياء. وسيد المرسلين. وحبيب رب العالمين. كل دعوى النبوة بعده فغي وهوى. وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى. بالحق والهدى. وبالنور والضياء. وأن القرآن كلام الله. منه بدا بلا كيفية قولا. وأنزله على رسوله وحيا. وصدقه المؤمنون على ذلك حقا. وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة. ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر. وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر. حيث قال تعالى:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (2)
(1) سورة الشورى الآية 11
(2)
سورة المدثر الآية 26
فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (1) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر. ولا يشبه قول البشر.
قوله: (قديم بلا ابتداء)
هذا اللفظ لم يرد في أسماء الله الحسنى كما نبه عليه الشارح رحمه الله وغيره، وإنما ذكره كثير من علماء الكلام ليثبتوا به وجوده قبل كل شيء. وأسماء الله توقيفية، لا يجوز إثبات شيء منها إلا بالنص من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة، ولا يجوز إثبات شيء منها بالرأي كما نص على ذلك أئمة السلف الصالح، ولفظ القديم لا يدل على المعنى الذي أراده أصحاب الكلام؛ لأنه يقصد به في اللغة العربية المتقدم على غيره، وإن كان مسبوقا بالعدم، كما في قوله سبحانه:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (2) وإنما يدل على المعنى الحق بالزيادة التي ذكرها المؤلف، وهو قوله:(قديم بلا ابتداء)، ولكن لا ينبغي عده في أسماء الله الحسنى؛ لعدم ثبوته من جهة النقل، ويغني عنه اسمه سبحانه الأول كما قال عز وجل:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (3) الآية، والله ولي التوفيق.
(1) سورة المدثر الآية 25
(2)
سورة يس الآية 39
(3)
سورة الحديد الآية 3
ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر. فمن أبصر هذا اعتبر. وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
والرؤية حق لأهل الجنة. بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (1){إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2). وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد. لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا. ولا متوهمين بأهوائنا. فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام. فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه. حجبه مرامه عن خالص التوحيد. وصافي المعرفة. وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب. والإقرار والإنكار. موسوسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا.
ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية- بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين ومن لم يتوق النفي والتشبيه. زل ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية. منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية. وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
(1) سورة القيامة الآية 22
(2)
سورة القيامة الآية 23
والمعراج حق. وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم. وعرج بشخصه في اليقظة. إلى السماء. ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء. وأوحى إليه ما أوحى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (1)، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.
والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته حق. والشفاعة التي ادخرها لهم حق. كما روي في الأخبار. والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة. وعدد من يدخل النار جملة واحدة. فلا يزاد في ذلك العدد، ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه. كل ميسر لما خلق له. والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله.
وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه. لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2).
(1) سورة النجم الآية 11
(2)
سورة الأنبياء الآية 23
فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب. ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
قوله تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات الست كسائر المبتدعات، هذا الكلام فيه إجمال قد يستغله أهل التأويل والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وليس لهم بذلك حجة؛ لأن مراده رحمه الله تنزيه البارئ سبحانه عن مشابهة المخلوقات، لكنه أتى بعبارة مجملة تحتاج إلى تفصيل حتى يزول الاشتباه، فمراده بالحدود يعني التي يعلمها البشر، فهو سبحانه لا يعلم حدوده إلا هو سبحانه؛ لأن الخلق لا يحيطون به علما كما قال عز وجل في سورة طه:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (1) ومن قال من السلف بإثبات الحد في الاستواء أو غيره، فمراده حد يعلمه الله سبحانه ولا يعلمه العباد، وأما الغايات والأركان والأعضاء والأدوات فمراده رحمه الله تنزيهه عن مشابهة المخلوقات في حكمته وصفاته الذاتية من الوجه واليد والقدم ونحو ذلك، فهو سبحانه موصوف بذلك، لكن ليست صفاته مثل صفات الخلق، ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وأهل البدع يطلقون مثل هذه الألفاظ لينفوا بها الصفات بغير الألفاظ التي تكلم الله بها وأثبتها لنفسه، حتى لا يفتضحوا وحتى لا يشنع عليهم أهل الحق. والمؤلف الطحاوي رحمه الله لم يقصد هذا المقصد لكونه من أهل السنة المثبتين لصفات الله وكلامه في هذه العقيدة يفسر بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ويفسر مشتبهه بمحكمه، وهكذا قوله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات مراده الجهات الست المخلوقة، وليس مراد نفي علو الله واستوائه على عرشه؛ لأن ذلك ليس داخلا في الجهات الست، بل هو فوق العالم، ومحيط به، وقد فطر الله عباده على الإيمان بعلوه سبحانه، وأنه في جهة العلو، وأجمع أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان على ذلك، والأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة كلها تدل على أنه في العلو سبحانه، فتنبه لهذا الأمر العظيم أيها القارئ الكريم، واعلم أنه الحق وما سواه باطل، والله ولي التوفيق.
(1) سورة طه الآية 110
فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى. وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر. ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود.
ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم. فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا، لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه. فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما. ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير. ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه. وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وبربوبيته. كما قال تعالى في كتابه:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1)
(1) سورة الفرقان الآية 2
نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم. والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.
مراده رحمه الله إلا من شهد له الرسول بالجنة كالعشرة ونحوهم، كما يأتي ذلك في آخر كلامه. مع العلم بأن من عقيدة أهل السنة والجماعة الشهادة للمؤمنين والمتقين على العموم بأنهم من أهل الجنة، وأن الكفار والمشركين والمنافقين من أهل النار، كما دلت على ذلك الآيات الكريمات والسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله سبحانه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (1)، وقوله عز وحل:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (2) في آيات كثيرات تدل على هذا المعنى، وقوله سبحانه في الكفار:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (3)، وقوله سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (4) في آيات أخرى تدل على هذا المعنى، وبالله التوفيق
(1) سورة الطور الآية 17
(2)
سورة التوبة الآية 72
(3)
سورة فاطر الآية 36
(4)
سورة النساء الآية 145
ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.
هذا الحصر فيه نظر؛ فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بينها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك طعنه في الإسلام أو في النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزاؤه بالله ورسوله أو بكتابه أو بشيء من شرعه سبحانه؛ لقوله سبحانه:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1){لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) ومن ذلك عبادته للأصنام أو الأوثان أو دعوته الأموات والاستعانة بهم وطلبه منهم المدد والعون ونحو ذلك؛ لأن هذا يناقض قول: لا إله إلا الله؛ لأنها تدل على أن العبادة حق لله وحده. ومنها الدعاء والاستعانة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فمن صرف منها شيئا لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين، فقد أشرك بالله ولم يحقق قول: لا إله إلا الله. وهذه المسائل كلها تخرجه من الإسلام بإجماع أهل العلم، وهي ليست من مسائل الجحود بأدلتها معلومة من الكتاب والسنة، وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم، وهي لا تسمى جحودا، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، فراجعها إن شئت، وبالله التوفيق.
(1) سورة التوبة الآية 65
(2)
سورة التوبة الآية 66
والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل الملة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها، فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظيا، بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان.
وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى. ومخالفة الهوى وملازمة الأولى.
والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، أكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن. والإيمان: هو الإيمان بالله. وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى. ونحن مؤمنون بذلك كله. لا نفرق بين أحد من رسله. ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به. وأهل الكبائر (من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار، لا يخلدون إذا ماتوا، وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين. بعد أن لقوا الله عارفين (مؤمنين)، وهم في مشيئته وحكمه. إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله. كما ذكر عز وجل في كتابه:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1). وإن شاء عذبهم في النار بعدله. ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته. وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته. ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته. ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم. ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى.
ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف. ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا. وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا
(1) سورة النساء الآية 48
بمعصية. وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة. ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة. ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه.
ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر. كما جاء في الأثر. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلها شيء ولا ينقضه. ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين. ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين. وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم.
قوله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) هذا فيه نظر، بل هو باطل، فليس أهل الإيمان فيه سواء، بل هم متفاوتون تفاوتا عظيما، فليس إيمان الرسل كإيمان غيرهم، كما أنه ليس إيمان الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضي الله عنهم مثل إيمان غيرهم، كما أنه ليس إيمان المؤمنين كإيمان الفاسقين، وهذا التفاوت بحسب ما في القلب من العلم بالله وأسمائه وصفاته، وما شرعه لعباده، وهو قول أهل السنة والجماعة، خلافا للمرجئة ومن قال بقولهم، والله المستعان.
والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. ونؤمن بالبعث جزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان. وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه، كل يعمل لما قد فرغ له وصائر إلى ما خلق له.
والخير والشر مقدران على العباد. والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به، فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع. والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل. وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1).
(1) سورة البقرة الآية 286
وأفعال العباد خلق لله. كسب من العباد. ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله)
نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله، إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله.
هذا غير صحيح، بل المكلفون يطيقون أكثر مما كلفهم به سبحانه، ولكنه عز وجل لطف لعباده ويسر عليهم ولم يجعل عليهم في دينهم حرجا؛ فضلا منه وإحسانا. والله ولي التوفيق
وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها. وغلب قضاؤه الجهل كلها. يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا، تقدس عن كل سوء وحين وتنزه عن كل عيب وشين {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1).
وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات. والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات ويملك كل شيء. ولا يملكه شيء. ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين. والله يغضب ويرضى. لا كأحد من الورى.
ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نفرط في حب أحد منهم. ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
(1) سورة الأنبياء الآية 23
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له، وتقديما على جميع الأمة. ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه. ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون.
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله الحق. وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أمين هذه الأمة. رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس. فقد برئ من النفاق.
وعلماء السلف من السابقين. ومن بعدهم من التابعين. أهل الخير والأثر،
وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء.
ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم. ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء. ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها. وخروج دابة الأرض من موضعها. ولا نصدق كاهنا ولا عرافا. ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ونرى الجماعة حقا وصوابا. والفرقة زيغا وعذابا. ودين الله في الأرض والسماء واحدا. وهو دين الإسلام. قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1). وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)، وهو بين الغلو والتقصير. وبين التشبيه والتعطيل. وبين الجبر والقدر. وبين الأمن والإياس. فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا. ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه.
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان. ويختم لنا به. ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية. مثل المشبهة. والمعتزلة. والجهمية. والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة. وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء وهم عندنا ضلال وأردياء. وبالله العصمة والتوفيق.
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2)
سورة المائدة الآية 3