الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمصير إليه؛ لأن أدلته واضحة ظاهرة، يعضد بعضها بعضا، وأن ما ورد عليها من مناقشات قد دنت وذهبت أدراج الرياح، فلم يبق إلا أن يكون هذا الرأي هو المختار حتى نسد الباب على كل طاعن، ونغلقه عن كل طارق فلا نسب إلى الدين ما ليس منه، ولا يرد عليه ما أورده أعداء الدين من المفاسد، من أن بعض التيوس المستعارة صار يحلل الأم وبنتها، ويجمع ماؤه في أكثر من أربع نسوة بل أكثر من عشر؛ لأنه لا غرض له في النكاح ولا في المصاهرة حتى يتجنب المحرم، ومنها أن كثيرا ما يتواطؤ المحلل مع المرأة على أن يطأها وليس له رغبة في ذلك، والمرأة لا تعده زوجا فتستحي وتهابه من أن تمكنه من نفسها؛ لاستشعارها أنه لا يتخذ زوجا.
الزواج مع شرط التحليل أو قصده حرام
إن الأصل في مشروعية الزواج الدوام والاستمرار، والمحلل لا يقصد شيئا من ذلك، وإنما هو مسمار نار أراد تثبيتها للأول فقط، ومن هذا تكاثرت الأدلة في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين والآثار الصحيحة عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان على تحريم التحليل، ولعن المحلل، واعتبار فعله من الزنا الذي يستحق إقامة الحد عليه، كيف لا يكون نكاح التحليل حراما وهو زواج يفعله أصحابه بتكتم وتستر؟ خوف الفضيحة والعار إذا علم واشتهر، مما يدل على أنه نكاح مقت منكر لا تتقبله النفوس، فلا يمكن أن يكون مشروعا أو مباحا، ولا يصح التماس مسوغ يبرر جوازه، بل إنه من مكائد الشيطان التي بلغ فيها مراده حيث يقترف أفراد جريمة الزنا في ظل نكاح مزعوم ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكتف بلعنه بل شبهه بالتيس المستعار.
وقد عير به المسلمون وجعل وسيلة للطعن والتشهير؛ لما يحصل به من الشر والفساد، ثم إن نكاح التحليل لا تحصل فيه المودة والرحمة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (1) ثم إن
(1) سورة الروم الآية 21
المحلل لا يراقب الله ولا يتقيه، ولا يقف عند حدوده، فقد يجمع بين الأم وابنتها في عقدين، ويجامع أكثر من أربع، وقد يجمع بين الأم وابنتها، وإن لم يكن هذا من لوازم نكاح التحليل، إلا أن التحليل يعطي الفرصة للرجل الفاسد رقيق الدين خبيث الطوية للعبث وارتكاب المحرم.
وإذا كان هذا شأنه وهذه صفاته فهو جدير باللعن كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له (1)» .
ونكاح التحليل لا تحل به المرأة لزوجها الأول، بل تبقى حراما عليه؛ لأن المحلل مخادع لله، ومن يخادع الله يخدعه، والبائن بينونة كبرى لا تحل للأول إلا بنكاح رغبة لا نكاح دلسة، وإن الشريعة الإسلامية التي هي خاتمة الأديان، والإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره جدير بالاحترام والعناية، ويجب تطهيره من الحيل الذميمة التي تشوه الدين، وتعطي الفرص للمغرضين بالعيب على الإسلام والمسلمين.
وقد جاءت شريعة الإسلام بحمد الله واضحة ظاهرة فالحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولقد عنيت شريعتنا الغراء بأمر الزواج، واهتمت أعظم الاهتمام بالأسرة والزواج، ووضعت لذلك نظاما كاملا محكما تنشأ فيه رابطة الزوجية على أساس من الطهر والثقة والتقدير المتبادل، وتقوم فيه علاقة الزوجين على أساس من المودة والرحمة والسكينة حتى تنبت فيه شجرة الأسرة قوية الجذور باسقة الفروع، وتنمو وتزدهر وتثمر أينع الثمر، وتنشر في الناس ظلا وارفا وأريجا عطرا، ولقد كانت عناية الشريعة الإسلامية بالزواج أكبر وأوسع من أي شريعة أخرى، إذ جعلها الله سبحانه وتعالى من آياته في خلقه، وعده من نعمه على عباده، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وقد بينت الشريعة ما يحل نكاحه من النساء وما يحرم وأحاطت عقد الزواج بأوثق الضمانات التي تكفل سعادة الزوجين وتأتي
(1) أخرجه البخاري وهو جزء من ص149 ج6، والترمذي ص43 ج5، والبيهقي ص208 - ط / حيدر آباد.
(2)
سورة الروم الآية 21
بالخير لأسرتهما وللمجتمع، وقد جعلت الشريعة لكل من الزوجين حقوقا وواجبات يؤديها له، وطالبتهما بحسن العشرة والاعتدال في المعاملة والتعاون على الحياة المشتركة بينهما، ورسمت الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات، ولا عجب أن يحظى الزواج بهذا القدر الكبير من الاهتمام والتنظيم فهو قاعدة الأسرة ونواة المجتمع، وهو وسيلة الإنسان العاقل لتنظيم الفطرة والغريزة التي أودعها الله فيه على وجه يحقق غاية استخلافه في الأرض بتعمير الكون، وبعث الحياة فيه قوية رائعة مثمرة، والتعاون على تدبير المصالح والمنافع، والسير بالحياة في مجال الخير والإصلاح.
وهي أيضا وسيلة الإنسان العاقل إلى حفظ نوعه وتخليد ذكراه بالتوالد والتناسل، قال الله تبارك وتعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (1). ومن أجل هذا كله كان الزواج ذا شأن خطير وأثر بالغ في حياة الإنسانية وتوجيهها، وكان عقد الزواج من أخطر العقود التي يتعامل بها الإنسان في الحياة، وقد وصفه القرآن بأنه ميثاق غليظ. قال الله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2){وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (3).
ووصف النبي عليه الصلاة والسلام عقد النكاح بقوله: «إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (4)» .
والميثاق يجب الوفاء به وتقديره، وأمانة الله واجبة الرعاية، وكلمة الله واجبة التنفيذ والاحترام، فزواج هذا شأنه من السمو والرفعة في تحقيق المثل العليا والأخلاق الكريمة والآداب السامية يتعين صيانته والمحافظة عليه، ولا يتحقق في نكاح التحليل شيء من هذا، وإذن فلا يصح بعد هذا كله أن يقال عن نكاح التحليل إنه نكاح جائز، بل هو نكاح باطل محرم، ملعون فاعله على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم لأن الأصل في مشروعية الزواج الدوام والاستمرار والمحلل لا
(1) سورة النحل الآية 72
(2)
سورة النساء الآية 20
(3)
سورة النساء الآية 21
(4)
أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله ص183 ج8.
يقصد شيئا من ذلك، وليس له غرض صحيح في هذا الزواج.
ولهذا يترجح عندنا القول ببطلان نكاح التحليل، وأنه يتعين على كل مسلم يريد المحافظة على دينه وصيانة عرضه أن يتجنب مثل هذا النوع من الأنكحة.
نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، ويهدينا سواء السبيل. . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.