الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً} أي والله سبحانه الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، فسواه وعدّله، وجعله كامل الخلقة، ذكرا وأنثى كما يشاء، فقسمه قسمين: ذكورا تنسب إليهم الأنساب، وإناثا يصاهر بهن، كما قال:{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [القيامة 39/ 75] وكان الله قديرا بالغ القدرة على كل شيء من هذا وغيره، يخلق ما يريد، وقد أبدع كل شيء خلقه، وأتقن كل ما في الوجود، وهو ما يزال كامل القدرة على الإبداع والخلق والتكوين. وختم الآية بإثبات القدرة هو مسك الختام.
قال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر. وقال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.
وهذا دليل آخر على قدرة الله تعالى إذ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوده بطاقات الحس والعقل، والمعرفة والتفكير، وأقدره على مخلوقات الدنيا، وجعلها مذلّلة مسخرة لخدمته ونفعه، فسبحانه من إله بديع الخلق، عجيب الصنع، واهب الوجود، ومبدع الكون العجيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذه الآيات أدلة خمسة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وهي:
أولا-خلق الظل المقابل للشمس وتمديده طوال النهار وانعدامه عند الظهيرة ما عدا سقف البيت والشجر، حكى أبو عبيدة عن رؤبة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل.
والظل نعمة عظمي للأحياء والعقلاء في كل مكان، لا سيما في البلاد الحارة، ففيه الراحة والهدوء، وتوقي الحر، أو الوقاية من ضربات الشمس الحادّة، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ، يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ} [النحل 48/ 16].
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ} يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم، أي من رؤية القلب. والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم فهو عام في المعنى.
والشمس دليل على الظل؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، فالشمس دليل، أي حجة وبرهان.
ويتفاوت طول الظل وقصره أثناء النهار تفاوتا سهلا يسيرا، شيئا فشيئا، والله هو الذي يقبضه بيسر وسهولة، وكل أمر ربنا عليه يسير.
ثانيا-الليل ستر للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن، والنوم راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال، والنهار ذو نشور، أي انتشار للمعاش، فهو سبب الإحياء للانتشار. والنوم ليلا يشبه الإماتة، واليقظة نهارا تشبه البعث،
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» .
ثالثا-الرياح مبشّرات بهطول المطر، تقود السحب من مكان إلى آخر، والأمطار الهاطلة حياة الأبدان والنباتات والحيوانات، وهي ماء طهور أي ما يتطهر به، والمراد أنه مطهر. وأجمعت الأمة على أن وصف (طهور) يختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات، وهي طاهرة.
والمياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة، على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. والمخالط للماء ثلاثة أنواع: نوع يوافقه في صفتيه جميعا وهو التراب طاهر مطهر، ونوع يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيّره سلبه صلاحية التطهير وهو ماء الورد وسائر المائعات الطاهرات، ونوع يخالفه في الصفتين جميعا، وهو النجس.
ويرى الجمهور أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، والكثير لا يفسده إلا
ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه من النجاسات. ويرى أبو حنيفة أنه إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته، كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت النجاسة فيه، فإن وقعت نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس.
وميّز الشافعية بين القليل والكثير بمقدار القلتين (15 صفيحة) فإذا بلغ الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة، ولم تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فهو طاهر مطهر، وإذا غيرت أحد أوصافه، ولو تغيرا يسيرا فنجس؛
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر: «إذا بلغ الماء قلّتين، لم يحمل الخبث» أو «لم ينجس» قال الحاكم: على شرط الشيخين: البخاري ومسلم.
ولا حدّ عند المالكية بين القليل والكثير، والمرجع فيه إلى العرف والعادة، فما هو قدر آنية الوضوء والغسل قليل يسير، وما يزيد عن ذلك كثير.
ولا يضر تغير الماء بما في مقره وممره كزرنيخ وطحلب وورق شجر ينبت عليه. وكذلك لا يضر ما مات في الماء مما لا دم له، أو له دم سائل من دواب الماء، كالحوت والضفدع إن لم يغيّر ريحه.
والماء المستعمل القليل في رفع حدث أو إزالة نجس طاهر مطهر عند المالكية، وطاهر غير مطهر عند الجمهور. ودليل المالكية: الآية التي وصفت الماء بالطهور والمطهر، والأصل في الثابت بقاؤه، والسنة وهو
أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده، وأنه توضأ فأخذ من بلل لحيته، فمسح به رأسه، والقياس: وهو أنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا، فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا. ودليل الجمهور
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم
(1)
وهو جنب» ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى.
(1)
الماء الدائم: هو الراكد الساكن.
والقياس وهو أن الصحابة كانوا يتوضئون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه، مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة.
(1)
والماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات: هو الماء الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كماء الورد، ولا يضره لون أرضه، كما بينا.
ولا بأس في مذهب الجمهور أن يتوضأ الرجل بفضل ماء وضوء المرأة وتتوضأ المرأة من فضل ماء وضوء الرجل، سواء انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد؛ روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا.
رابعا-أرسل الله البحرين: العذب والمالح، وجعلهما متجاورين متلاصقين لا يمتزجان ولا يختلطان، وجعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، وسترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ: الحاجز، والحجر: المانع.
خامسا-خلق الله تعالى من النطفة إنسانا، وجعل من الإنسان صنفين: الذكر والأنثى، وجعل الذكر موضع نسبة النسب، والأنثى سببا للمصاهرة، وإيجاد قرابات جديدة، فكل من النسب والصهر قرابة ويعمان كل قربى بين آدميين.
وتضمنت الآيات أيضا بالإضافة إلى الاستدلال بها على قدرة الله تعداد النعم على بني الإنسان من إيجاد الظل، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال الأمطار،
(1)
تفسير الرازي: 92/ 24