الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما تعهدهم به من التوفيق. {رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} فيه إشعار بأن موجب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهارون؛ لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر.
{قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ} قال فرعون أآمنتم لموسى. {آذَنَ لَكُمْ} أنا. {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} إن المسؤول هو كبيركم موسى الذي علمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم، وتواطأتم على ما حدث. أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني.
{لا ضَيْرَ} لا ضرر علينا في ذلك وفيما يلحقنا من عذاب الدنيا. {إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} أي إنا راجعون في الآخرة بعد موتنا إلى الله ربنا بأي وجه كان، فالصبر على الإيمان محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى. {إِنّا نَطْمَعُ} نرجو. {أَنْ كُنّا} بأن كنا أو لأن. {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} في زماننا.
التفسير والبيان:
أراد فرعون وقومه القبط أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، وهذا شأن الإيمان والكفر، والحق والباطل، ما تواجها وتقابلا إلا غلب الإيمان الكفر:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ} [الأنبياء 18/ 21]، {وَقُلْ:}
{جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} [الإسراء 81/ 17].
وهذا مشهد من مشاهد الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى:
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} جمع السحرة وجاؤوا من أقاليم مصر، في اليوم المخصص للقاء موسى، وهو وقت الضحى من يوم الزينة (العيد) كما حدد موسى:{قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى} [طه 59/ 20] والميقات: ما وقت به الزمان أو المكان، ومنه مواقيت الإحرام.
وكان السحرة أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكانوا هم الفئة المثقفة، وكانوا جمعا كثيرا، قيل: كانوا اثني عشر ألفا، وقيل أكثر، والله أعلم
بعددهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم:
سابور وعاذور وحطحط ومصفى.
وأراد موسى عليه السلام أن تقع تلك المبارزة يوم عيد لهم، ليكون ذلك أمام حشد عظيم، ولتظهر حجته عليهم أمام الجموع الغفيرة، وهذا كله من لطف الله تعالى في إظهار أمر موسى عليه السلام.
{وَقِيلَ لِلنّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} ؟ أي طلب من الناس الاجتماع، وحثهم قوم فرعون على الحضور لمشاهدة ما يحدث من الجانبين، ثقة من فرعون بالغلبة، وهم أرادوا ذلك حتى لا يؤمن أحد بموسى، وموسى عليه السلام رغب أيضا في هذا التجمع لتعلو كلمة الله، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين.
{لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ} أي وقال قائلهم: إنا نرجو أن يتغلب السحرة، فنستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى. ولم يقولوا: نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى؛ لأن الرعية على دين ملكهم.
{قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي لما قدم السحرة إلى مجلس فرعون، وقد جمع حوله وزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، قالوا: هل لنا أجر من مال أو غيره إن تغلبنا على موسى، قال: نعم لكم الأجر، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقربين عندي ومن جلسائي، فهم ابتدؤوا بطلب الجزاء: وهو إما المال وإما الجاه، فبذل لهم كلا الأمرين.
وبعدئذ تحاوروا مع موسى على البادئ بالإلقاء، فجعلهم أولا كما قال تعالى:
{قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ} أي أذن لهم موسى بالبدء بالإلقاء، وقال: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة منه بأن الله غالبة ومؤيده، وليكون
ما يلقونه طعمة لعصاه، بعد أن عرضوا عليه أن يبدأ أولا بالإلقاء، فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزئبق، والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزة فرعون أي بقوته وجبروته إنا لنحن المتغلبون عليه.
فلما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وامتلأت الساحة بالحيات والثعابين، وخيل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، كما قال تعالى:{فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} [طه 66/ 20 - 68] وقال سبحانه: {فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} . [الأعراف 116/ 7]. وحينئذ ابتهج فرعون وقومه، واعتقدوا أن السحرة غلبوا، وأن عصا موسى لن تفعل شيئا أمام آلاف الحيات.
فأمره الله أن يلقي عصاه:
{فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ} أي فلما ألقى موسى عصاه، فإذا هي تبتلع من كل بقعة ما قلبوا صورته وزيفوا حاله بتمويههم وتخييلهم أنها حيات تسعى، فلم تدع منه شيئا، كما قال تعالى:{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف 117/ 7 - 118].
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} أي فخرّ السحرة ساجدين بلا شعور؛ لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل إليه الكون رب موسى وهارون، فلم يتمالكوا أنفسهم إلا ووجدوها ساجدة لهذا الإله، أما هم فقد بذلوا أقصى ما لديهم من علم وطاقة، وما هو منتهى فعل السحرة من تخييل وتمويه.
وفاعل الإلقاء في {فَأُلْقِيَ} أو نائب الفاعل هو الله عز وجل بما رزقهم من التوفيق، أو هو إيمانهم، أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة. ويجوز عدم تقدير فاعل؛ لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا.
والتعبير بالإلقاء إشارة إلى الدهشة التي اعترتهم، حتى لكأنهم أخذوا فطرحوا وسقطوا ساجدين لله. ثم أعلنوا ما وقر في صدورهم:
{قالُوا: آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ} أي قال السحرة:
صدقنا واعترفنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى وهارون، مفضلين الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، غير عائبين بعزة فرعون وجبروته وباطله، ولا طامعين بأجره وقربته ومنافعه.
وهذا دليل على إسقاط ربوبية فرعون، وأن سبب الإيمان هو ما رأوه من معجزة الرسولين: موسى وهارون عليهما السلام.
ولما رأى فرعون ما حدث أسقط في يده، وتحير في أمره، فلجأ إلى التهديد والوعيد شأن العتاة الظالمين، حتى لا تسقط هيبته أمام شعبه، وتتداعى أركان حكمه وسلطانه، ويفعل الناس مثل فعل السحرة الكثيرين، فإنه توقع الغلبة، ففوجئ بالهزيمة المنكرة، ولكن لم تفلح تهديداته في السحرة شيئا، وأصروا على الإيمان بالله تعالى، لانكشاف الحقيقة لهم، وقال لإنقاذ موقفه:
أولا- {قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} قال فرعون للسحرة: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تخرجون عن طاعتي، وأنا الحاكم المطاع؟! وفي هذا إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه، وأنكم متهمون بالتواطؤ معه، فربما قصروا في إتقان السحر.
وإنما قال {لَهُ} لا (به) لأنه الذي يدعو إليه موسى وهارون.
ثانيا- {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وهذا تصريح بما رمز إليه أولا، فإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، وقصّرتم في السحر، ليظهر أمر موسى.
وهذا تلبيس على القوم وتضليل لهم لئلا يعتقدوا أن إيمان السحرة حق، ومبالغة في التنفير عن موسى عليه السلام، ومكابرة ظاهرة الضعف، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل الموعد أصلا، فكيف يكون هو كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثالثا- {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني من عقاب.
وهذا وعيد مطلق وتهديد شديد.
رابعا- {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي توعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والصلب بعد ذلك جميعا. وليس في الإهلاك أشد من ذلك.
فأجابوه بما يدل على صلابة الإيمان بوجهين:
الأول- {قالُوا: لا ضَيْرَ إِنّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} الضر والضير واحد، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت، ولو بعد حين، والمرجع إلى الله عز وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، وهذا دليل على أنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم مرضاة الله تعالى، ولهذا قالوا:
الثاني- {إِنّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} وهذا إشارة منهم إلى الكفر والسحر، أي إنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وما أكرهتنا عليه من السحر، من أجل أن كنا أول المؤمنين الذين شهدوا هذا الموقف، أو بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فما كان من فرعون إلا أن قتلهم جميعا. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم: