الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للأنبياء، علما بأن فرعون لم يقل لموسى: وما ربّ العالمين إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، بدليل ما تقدم من قوله:{فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} .
التفسير والبيان:
هذه مناظرة بين موسى وفرعون حول الإله، فلما قال موسى وهارون لفرعون: إنا أرسلنا إليك من رب العالمين لهدايتك إلى الحق وتوحيد الله، وتفوّقا عليه بالحجة، لجأ إلى المعارضة، وأصرّ على جحوده وتمرده وطغيانه، فقال:
{قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} أي قال فرعون لموسى: وما حقيقة رب العالمين الذي أرسلك؟ ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ وسبب السؤال أنه كان يقول لقومه: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} [القصص 38/ 28] فجحدوا الإله الصانع جلّ وعلا، واعتقدوا أنه لا رب لهم سوى فرعون.
فأجابه موسى عليه السلام:
{قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أي قال موسى: هو خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما من كواكب ونجوم، وبحار وجبال وأنهار وأشجار، وإنسان وحيوان ونبات، وما بينهما من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو، إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، الجميع عبيد له، خاضعون ذليلون، خلق الأشياء كلها، وهو المتصرف فيها. أو إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته، فاعرفوا أنه هو الله، وأنه لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. ونظير الآية قوله:{قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} [طه: 49/ 20 - 50].
فلم يعجبه الجواب والتفت إلى خاصته ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله:
{قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ} أي قال فرعون لحاشيته: ألا تعجبون من قوله وزعمه أن لكم إلها غيري، وأ لا تستمعون لتخريفه وتهربه من الجواب؟ أسأله عن حقيقة رب العالمين، فيذكر أفعاله وآثاره.
فذكر موسى جوابا آخر أخص مما ذكر وأدل على المراد، لأنه واقع حسي مشاهد لهم:
{قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي إنه تعالى خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، والمقصود أن التغير من وجود إلى عدم وبالعكس دليل الحدوث، فأنتم محدثون، كنتم بعد العدم، وآباؤكم ماتوا بعد أن كانوا موجودين، وأنتم مثلهم على الطريق، أما الإله الواجب لذاته فهو الباقي الذي لا يطرأ عليه الفناء، ولا أول لوجوده ولا آخر، فهو إذن الإله.
فلما حار فرعون ولم يجد جوابا مقنعا، لجأ إلى عقلية الصبية والاتهام الرخيص:
{قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم ليس له عقل، لا يفهم السؤال، فضلا عن أن يجيب عنه، وهو يخلط في كلامه، ويدعي أن هناك إلها غيري.
فعدل موسى إلى طريق ثالث أوضح من الجواب الثاني فقال:
{قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي قال موسى:
إنه الله تعالى رب طلوع الشمس وظهور النهار، ورب غروب الشمس وزوال النهار، وهو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا
تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع انتظام مداراتها، فهذا الذي يغير ويبدل، وينظم ويدبر تدبيرا مستمرا كل يوم هو الله، بل هو الذي يدبر الكون كله، لا أنتم، إن كان لكم عقل تدركون به ظواهر الكون، وهذا مناسب لقولهم واتهامهم بأنه مجنون. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا، فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربا، والمغرب مشرقا.
وهذا الطريق في الاستدلال على وجود الله هو الذي سلكه إبراهيم الخليل عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة، وهو بعينه الذي أجاب به موسى هنا بقوله:{رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} فأجابه نمروذ بقوله:
{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة 258/ 2] فقال إبراهيم: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة 258/ 2] وهو الذي ذكره موسى هنا بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} .
ولما غلب موسى فرعون بحجته، اتجه كأهل السلطة في كل زمان ومكان إلى التهديد والوعيد باستخدام القوة والقهر والسلطان، فقال:
{قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} أي قال فرعون:
لئن ألّهت غيري، لجعلتك في عداد المسجونين الذين يزجّ بهم كما تعلم في قيعان السجون تحت الأرض، ويتركون حتى يموتوا، وكان سجنه أشد من القتل.
فقابل موسى التهديد والتخويف بالمعجزات الخارقة للعادة بعد أن لم تفلح الأدلة العقلية، فقال:
{قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي قال موسى: أتفعل هذا وهو السجن، ولو أتيتك بحجة بيّنة، وبرهان قاطع واضح على صدق دعواي النبوة؟ وهي المعجزة الدالة على وجود الله تعالى.