الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة 48/ 5].
والخلاصة: إن هذه الآيات تتضمن أدلة ثلاثة على أن القرآن من عند الله:
وهي كونه منزلا على قلب النبي الأمي الذي لم يسبق له علم بشيء منه، والذي وعاه وحفظه وأنذر به، وكونه بلسان عربي مبين تحدى به العرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، بل بسورة منه، فعجزوا، مما يدل على أنه من عند الله، لا من عند محمد، وكونه منوها به ومبشرا به في الكتب السماوية السابقة. وإذا ثبت كون القرآن من عند الله، ثبتت نبوة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني على نبوته صلى الله عليه وسلم وصدقه:
{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} ؟ أي أوليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل، وبيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وكان مشركو قريش يذهبون إليهم ويسألونهم عن ذلك ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس: أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه، وذكروا نعته.
(1)
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.} . الآية [الأعراف 157/ 7].
وهذا يدل دلالة واضحة على نبوته صلى الله عليه وسلم؛ لأن تطابق الكتب الإلهية على إيراد نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته.
(1)
البحر المحيط: 41/ 7.
وبعد أن بيّن الله تعالى بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق لهجته، بيّن بعدئذ أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال:
{وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي ولو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم، وهم الذين لا ينطقون باللغة العربية، فضلا عن أن يقدروا على نظم مثله، فقرأه عليهم فصيحا معجزا متحدى به، لكفروا به أيضا، كما جاء في آية أخرى:{وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ} [فصلت 44/ 41]، وذلك بحجة عدم فهمهم له.
أما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، فلا عذر لهم في عدم الإيمان به.
وعلى هذا، الأمر سيّان، فسواء أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، أو أنزلناه على أعجمي لا يحسن العربية لكفروا به.
وهذا دليل ملموس على تعنت كفار قريش وعنادهم وشدة كفرهم، مع أنهم عرفوا الحق، وأدركوا سرّ فصاحة القرآن وبلاغته، ولكنهم تجاهلوه عصبية وأنفة واستكبارا. وفيه أيضا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيف لأحزانه لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
ثم أكد الله تعالى هذا الموقف المتعنت فقال:
{كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي أدخلناه ومكنّاه، والمعنى: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجمي على العرب، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش. والمقصود أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على عربي أو أعجمي، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، فإن الكفر به والتكذيب له متمكن في قلوبهم، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من
نفوسهم أي وسيلة علاج أو إصلاح، كما قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام 7/ 6].
وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا عرف هذا الرسول إصرارهم على الكفر، وأنه تمّ القضاء به لسبق علم الله بموقفهم المتصلب الذي لا يتغير، حصل له اليأس من إيمانهم والاطمئنان على سلامة موقفه منهم، وأنه لا ضير عليه في ذلك.
وزاد في التأكيد والتوضيح والبيان فقال:
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} أي إنهم يظلون كافرين، غير مؤمنين بالحق، جاحدين له في قلوبهم، لا يزالون على التكذيب به، حتى يعاينوا العذاب الشديد الألم.
ثم أخبر الله تعالى عما هو أشد من العذاب وهو مجيئه فجأة، فقال:
{فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي إن هذا العذاب يأتي أولئك المكذبين بالقرآن فجأة، دون أن يشعروا بمجيئه، وحينئذ يتحسرون، كما قال تعالى:
{فَيَقُولُوا: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} ؟ مؤخرون، أي إنهم يتمنون حينئذ تأخير العذاب قليلا حينما يشاهدونه، ليتداركوا ما فاتهم، ويعملوا في زعمهم بطاعة الله تعالى، ولكن لا ينفعهم الندم ولن يؤجلوا؛ لأنهم يعلمون ألا ملجأ في الآخرة، وإنما يذكرون ذلك استرواحا.
ومع هذا البيان والإنذار تغلب عليهم الحماقة والجهل، فيطلبون تعجيل العذاب، فقال:{أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ} ؟ أي كيف يطلبون تعجيل
العذاب، بقولهم:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ} [الشعراء 187/ 26]، وقولهم:{فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} [الأعراف 70/ 7]، وهم عند نزول العذاب يطلبون التأجيل والتأخير، فهم قوم متناقضون.
وهذا إنكار عليهم وتهديد لهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم تكذيبا واستبعادا:{اِئْتِنا بِعَذابِ اللهِ} [العنكبوت 29/ 29].
ثم بيّن الله تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يحدث منهم ليتمتعوا في الدنيا، فقال:
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} أي لو فرض أيها المخاطب أننا لو أطلنا في عيشهم ليتمتعوا من نعيم الدنيا طوال سنين، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة، فلا يجدي أي شيء عنهم ولا ما كانوا فيه من النعيم، ولا يخفف من عذابهم، ولا يدفعه عنهم؛ لأن مدة التمتع في الدنيا مهما طالت متناهية قليلة، ومدة العذاب في الآخرة غير متناهية، كما قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} [النازعات 46/ 79]، وقال سبحانه:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة 96/ 2]، وقال عز وجل:{وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدّى} [الليل 11/ 92].
عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة، فقال له:
عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.
(1)
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له:
هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتى
(1)
تفسير الرازي: 171/ 24.
بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط، فيقول: لا والله يا ربّ» أي كأن شيئا لم يكن.
ثم أخبر الله تعالى عن قانون عدله التام الدائم في خلقه، وهو أنه لا يعذب قوما إلا بعد إنذار، ولا يهلك أمة إلا بعد إعذار وبيان الحجة، وبعثة الرسل، فقال:
{وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنّا ظالِمِينَ} أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم من عذابنا على كفرهم، ويبشرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا، وذلك تذكرة لهم وتنبيه إلى ما يجب عليهم، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم، وإنما أصروا على الكفر والجحود وعبادة غيرنا.
وهذا المبدأ شهير مكرر في القرآن، مثل قوله تعالى:{وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء 15/ 17]، وقوله سبحانه:{وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ} [القصص 59/ 28].
ثم ردّ الله تعالى على المشركين الذين كانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن ما أنزل عليه من القرآن مثلما تلقي الشياطين على الكهنة، فقال:
{وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي إن القرآن العظيم لم تلق به الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة، ولا يتيسر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب، معزولون عن استماع كلام أهل السماء.
فهذا الإنزال يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه
(1)
:
(1)
تفسير ابن كثير: 349/ 3.