الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزجاج الصافي، وأن الماء يجري تحته لا فيه، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء.
وحينئذ استدلت بكل ما رأت على التوحيد والنبوة فأعلنت إسلامها، وأراد الله لها الخير والهداية، فقالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي يا ربي، إني ظلمت نفسي في الماضي بعبادة غيرك، وأسلمت مع إسلام سليمان، وخضعت لله رب العوالم كلها من الإنس والجن.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
1 -
استدعى سليمان عليه السلام عرش بلقيس (كرسي الملك) من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ليريها قدرة الله العظمى، ويجعله دليلا على نبوته؛ لأخذه من قصرها دون جيش ولا حرب، وقبل أن تأتي هي وجماعتها إليه مستسلمين.
2 -
ظهرت قدرة الله على يد مؤمن عالم بكتاب الله وبأسراره وبالاسم الأعظم، فجيء بعرش بلقيس بسرعة خاطفة، وكان هذا العالم بإقدار الله وتوفيقه أقدر من عفريت الجن-وهو القوي المارد-الذي استعد للإتيان به، في زمن أطول، ولكنه سريع وقريب وقصير أيضا، إذ كان في مدة زمن القضاء اليومي، وأما زمن العالم فهو بمقدار إطباق الأجفان وفتحها.
وفي هذا دلالة على سمو مرتبة العلم ورفعة العلماء في الدنيا والآخرة إذا عملوا بعلمهم صالحات الأعمال.
قال القشيري: وقد أنكر كرامات الأولياء من قال: إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان، قال للعفريت:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . وعند هؤلاء يكون ما فعل العفريت ليس من المعجزات، ولا من
الكرامات، فإن الجنّ يقدرون على مثل هذا.
وعلى أي حال، تم نقل العرش من اليمن إلى الشام بقدرة الله العظمى، وإن وجدت الوسيلة في الظاهر، كفلق البحر لموسى عليه السلام، بضرب العصا، فإن الفالق هو الله تعالى، وليس العصا.
3 -
إن ما حدث من إحضار العرش بهذه السرعة هو معجزة لسليمان عليه السلام، والمعجزات خوارق للعادات، لا تخضع لمقاييس الأحوال العادية، ولا يصدق بالمعجزة إلا مؤمن بقدرة الله، أما الكافر الملحد أو المادي الذي لا يصدق إلا بما يقدمه العلم التجريبي، فإن إقناعه بذلك عبث. وقد أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة، وتؤمن بنبوته.
4 -
إن ظهور المعجزة على يد الأنبياء أمر موجب للشكر والحمد الكثير لله عز وجل، لتأييدهم بها، ولإظهار عجزهم الحقيقي أمامها، لذا قال سليمان لما رأى العرش ثابتا مستقرا عنده:{هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي هذا النصر والتمكين من فضل الله ربي، لينظر أأكون شاكرا حامدا، أما كافرا بالنعمة جاحدا؟ 5 - لا يرجع نفع الشكر إلا إلى الشاكر نفسه؛ لأنه بالشكر يحقق تمام النعمة ودوامها والمزيد منها، وبه تنال النعمة المفقودة أيضا. وأما ضرر الكفر والجحود فعائد كذلك إلى الكافر نفسه، ومع كفره فإن الله غني عن شكره، كريم في التفضل والإنعام عليه بالرغم من الكفر.
6 -
إن تنكير العرش وتغيير هيئته فيه استثارة البحث، وإمعان النظر، وإعمال العقل، وتركيز الانتباه إلى آية المعجزة، وقد بدا كل هذا في جواب بلقيس {كَأَنَّهُ هُوَ}. قال عكرمة: كانت حكيمة، فقالت:{كَأَنَّهُ هُوَ} .
وقال مقاتل: عرفته، ولكن شبّهت عليهم، كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها:
أهذا عرشك؟ لقالت: نعم هو.
7 -
قوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها.} . إذا كان من قول سليمان وهو الظاهر فيراد به أنه أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وإذا كان من قول بلقيس، فيراد به أنه أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل آية العرش هذه، وكنا مسلمين منقادين لأمره.
8 -
ما أجمل تقديم هذا الاعتذار عن تأخر إسلام بلقيس إلى لقاء سليمان، وهو تأثرها بالبيئة وعقيدة أهل المملكة، فقد منعها أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر، وكانت من قوم كافرين غير مؤمنين بوجود الله ووحدانيته.
9 -
أراد سليمان أيضا بالإضافة إلى إظهار المعجزة لنبوته بإحضار عرش بلقيس أن يبهرها بقوة ملكه، وعزة سلطانه، وأن ذلك أعزّ وأمنع من مملكتها الغنية، وبلادها الخصبة، وقصورها المشيدة. كما أنها شهدت في صرح سليمان فنا رائعا في البناء والهندسة المعمارية ما لا مثيل له حتى في أوج العصر الحاضر وعظمة تقدم العلم والفن في القرن العشرين، ولعل عظمة بناء المسجد الأقصى خير مثال على تقدم فن البناء وعظمته في عهد سليمان عليه السلام.
10 -
تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان، وخضوعها لله رب العالمين.
وأخيرا يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه السلام من بلقيس، وأحسن ما أذكره هنا قول الرازي: والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها: اختاري من قومك من أزوجك