الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محذوف، أي إنه {لَمِنَ الْكاذِبِينَ} في دعواك {كِسَفاً} جمع كسفة أي قطعة (وزنا ومعنى) والمراد قطع عذاب. {الظُّلَّةِ} السحابة التي أظلتهم بعد حر شديد أصابهم، فاجتمعوا تحتها، ثم أمطرتهم نارا فاحترقوا جميعا.
{إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إلى قوله {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} هي مقالة الأنبياء السابقين نفسها.
المناسبة:
هذا آخر القصص السبع المذكورة في هذه السورة باختصار، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من إعراض قومه، فيغتم ويحزن، وتهديدا للمكذبين به، وإعلاما باطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به.
وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} ومع أهل الأيكة، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر، بعثه الله إليهم، لإصلاح الوضع الاجتماعي المتردي فيهم، وهو بخس الكيل والميزان وتطفيفه، والإفساد الشديد في الأرض، فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان، وألا يعثوا في الأرض مفسدين، فكذبوه، فأهلكهم الله بعذاب يوم الظلة.
التفسير والبيان:
{كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} أي كذب أصحاب الغيضة وهي الشجر الكثير الملتفّ، وكانت قرب مدين، وقال ابن كثير:«أصحاب الأيكة: هم أصحاب مدين على الصحيح»
(1)
. كذبوا رسولهم الذي بعث إليهم، وهو شعيب عليه السلام.
(1)
تفسير ابن كثير: 345/ 3.
كذبوه حين قال لهم شعيب: ألا تتقون عذاب الله؟! بالإيمان به وبرسوله وبالامتناع عن معاصيه. ولم يقل «أخوهم شعيب» لأنه كما يرى الزمخشري والبيضاوي والرازي لم يكن منهم نسبا. ورأى ابن كثير أنه تعالى قطع نسب الأخوة بينه وبينهم، للمعنى الذي نسب إليهم وهو عبادة الأيكة وهي شجرة، وإن كان أخاهم نسبا.
وحثهم بإخلاص على اتباع رسالته مطمئنا لهم بصراحة أنه رسول إليهم مرسل من عند الله، أمين على تبليغ الرسالة بكاملها، فاتقوا الله وخافوه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وما أطلب منكم أجرا وجزاء ماديا أو معنويا كجاه أو سلطان أو رياسة على تبليغي الرسالة، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني إليكم.
نصحهم بهذه النصائح الأساسية في رسالته، ثم أمرهم بأشياء قائلا:
1 -
إيفاء الكيل والميزان: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي إذا بعتم فأتموا الكيل والميزان، ولا تكونوا ممن ينتقص الناس حقوقهم، وإذا اشتريتم فلا تزيدوا في الوزن والكيل طمعا بأموال الناس، كما لو بعتم، أي أن الواجب يقتضي المساواة في الأخذ والعطاء، فخذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.
{وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي وزنوا بالميزان العادل السوي، ونظير الآية قوله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين 1/ 83 - 4] فهذا نهي عن التطفيف في الكيل والوزن، يشمل المساواة في الأخذ والعطاء والبيع والشراء.
ثم نهاهم عن الظلم والبخس نهيا عاما في كل حق فقال:
2 -
عدم إنقاص الحقوق: {وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ} أي ولا تنقصوهم أموالهم أو حقوقهم في أي شيء مكيل أو موزون، مذروع أو معدود، فشمل كل المقادير، وأوجب العدل في المقاييس عامة، كيلا أو وزنا أو مساحة أو قدرا، كذلك شمل حقوقهم الأدبية والمعنوية كالحفاظ على الكرامة والعرض، قال الرازي: وهذا عام في كل حق يثبت لأحد ألا يهضم، وفي كل ملك ألا يغصب مالكه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض بجميع أنواعه فقال:
3 -
عدم الإفساد: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تفسدوا أشد الإفساد في الأرض كقطع الطريق والغارة والنهب والسلب والقتل وإهلاك الزرع وغير ذلك من أنواع الفساد التي كانوا يفعلونها.
4 -
تقوى الله: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} أي وخافوا بأس الله الذي تفضل عليكم بخلقكم وخلق من تقدمهم من ذوي الخلقة المتقدمين، من آبائهم الذين انحدروا منهم وكانوا في الظاهر سبب وجودهم وخلقهم، ومنهم أصحاب البأس والقوة والمال كقوم هود وقوم صالح. وهذا كما قال موسى عليه السلام سابقا:{رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء 26/ 26].
فأجابوه بالطعن في رسالته من ناحيتين، ثم بالاستخفاف بالوعيد والتهديد. أما الطعن فهو:
1 -
{إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا} أي ما أنت إلا رجل مسحور مغلوب على عقله، فلا يسمع لقولك، ولا يؤبه لنصحك. وهذا مثلما أجابت به ثمود رسولها، تشابهت قلوبهم، واتفقت منازع الكفر فيهم.
ثم قالوا له: إنك مثلنا بشر، فما الذي فضّلك علينا، وجعلك نبيا ورسولا دوننا؟!. وأتوا بالواو في قولهم {وَما} للتعبير عن قصدهم معنيين كلاهما مناف
للرسالة في تقديرهم: السحر والبشرية. وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحدا، وهو كونه مسحرا، ثم قرروا كونه بشرا مثلهم.
2 -
{وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ} أي ويغلب على ظننا أنك ممن تعمد الكذب فيما يقول، ولست ممن أرسلك الله إلينا.
وأما الاستخفاف بالتهديد فهو:
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} أي إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك بأننا سنعذب، فأنزل علينا قطعا من السحاب فيها نوازل العذاب. وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب والعناد واستبعادهم وقوع العذاب. وبعبارة أخرى: إن كنت صادقا أنك نبي، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء. والسماء: السحاب أو المظلة.
وهذا شبيه بما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى:
{وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى أن قالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء:
90/ 17 - 92] وقوله سبحانه: {وَإِذْ قالُوا: اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} [الأنفال 32/ 8].
وهم بهذا ظنوا أنه إذا لم يقع العذاب ظهر كذبه، فأجابهم شعيب عليه السلام:{قالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} أي قال شعيب: الله ربي أعلم بعملكم، فيجازيكم عليه، إما عاجلا وإما آجلا، وأما أنا فلا قدرة لي على إنزال العذاب، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به، وهو غير ظالم لكم.
وهذا دليل على أنه لم يدع عليهم، بل فوض الأمر في التعذيب إلى الله تعالى، فلما استمروا في التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظّلّة، فقال تعالى: