الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بالرغم مما أبان الله تعالى من أدلة التوحيد في ظواهر الكون، فإن المشركين ظلوا يعكفون على عبادة الأصنام، فأخبر تعالى عن جهلهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، بلا دليل ولا حجة في ذلك، بل بمجرد التقليد والهوى والتشهي، تاركين اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء يبشرهم بالخير إن أطاعوا، وينذرهم بالعذاب إن عصوا وأعرضوا، وهو لا يبتغي على ذلك أجرا.
ثم وجه الله تعالى رسوله بأن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت، العالم بجميع المعلومات، القادر على كل الممكنات، فلا يرهب جانب المشركين ولا يخشى بأسهم، وأمره أيضا بأن ينزه ربه عن كل صفات النقص كالشريك والولد، ويصفه بجميع صفات الكمال، وأبان له أن وجوب السجود والعبادة لا يكون إلا للرحمن الذي خلق الكواكب السيارة وجعل لها منازل، وجعل الليل والنهار في تعاقب دائم للتذكر وتوجيه الشكر لله تعالى.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن ضلال المشركين عن عبادة الله وجهلهم وكفرهم بربهم فيقول:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} أي ويعبد المشركون آلهة من غير الله لا تنفعهم عبادتها، ولا يضرهم هجرها وتركها، ولا دليل لهم على ذلك إلا مجرد الهوى والتشهي، ويتركون عبادة من أنعم عليهم بالنعم السابق ذكرها في الآيات من مدّ الظل وغيره.
{وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً} أي وكان الكافر على معصية ربه معينا للشيطان بالعداوة والشرك أو يعينه على معصية الله. والمراد: جنس الكافر وهو عام في كل كافر.
قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام. لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأولى حمل لفظ {الْكافِرُ} على العموم، ولأنه أوفق لظاهر قوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} .
{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي أن المشركين قوم حمقى جهال، فكيف يعينون الشيطان على معصية الله ورسوله، مع أن الله أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ليبشر من أطاعه بالجنة، وينذر من عصاه بالنار؟ وأما أنت أيها الرسول فلا تأبه بعنادهم وكفرهم، فما أنت إلا نذير وبشير، وعلى الله الحساب والعقاب، فلا تحزن على عدم إيمانهم. وهل من جهل أعظم من الإمعان في إيذاء من يريد نفعهم في الدنيا والآخرة؟! ونظير الآية:{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} [المائدة 67/ 5].
وهو يريد نفعهم بمحض الإخلاص دون أن يبغي لنفسه نفعا من أجر أو غيره، لذا قال تعالى:{قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب على هذا البلاغ وهذا الإنذار أجرة من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. و {مِنْ} للتأكيد.
{إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لم أسألكم أجرا أبدا، لكن من أراد أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد والتطوعات وغيرها، ويتخذ إلى ربه طريقا يؤدي به إلى رحمته ونيل ثوابه، بالعمل الصالح، فليفعل ولا يتردد.
والمراد: لا تصنعوا معي إحسانا بأجر تدفعونه لي، ولكن اطلبوا الأجر لأنفسكم بفعل الخير وعبادة الله وشكره.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} بعد أن بيّن سبحانه
لرسوله أن الكفار متظاهرون على إيذائه، مع أنه لا يطلب منهم أجرا مطلقا، أمره بأن يتوكل عليه في أموره كلها لدفع جميع المضار، وجلب جميع المنافع، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر، وناصره، ثم أمره بأن ينزهه عن كل نقص كالشريك والولد، تنزيها مقترنا بحمده وشكره، فيقرن بين الحمد والتسبيح، قائلا: سبحان الله وبحمده، ولهذا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك» أي أخلص له العبادة والتوكل. ومعنى التوكل:
تفويض الأمر كله لله بعد اتخاذ الأسباب والوسائط المطلوبة شرعا وعقلا.
وللآية نظائر كثيرة مثل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمّل 9/ 73]{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود 123/ 11]{قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا} [الملك 29/ 67].
{وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً} أي كفاك الله عالما علما تاما بمعاصي عباده، لا تخفى عليه خافية، يعلم ما ظهر منها وما بطن، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد 3/ 57]. وفي هذا سلوة لرسوله، ووعيد للكفار إن لم يؤمنوا على كفرهم ومعاصيهم.
{الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} أي أن الله الخبير العليم بكل شيء هو الذي أوجد السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام بقدرته وسلطانه، ثم استوى على العرش أعظم المخلوقات استواء يليق بعظمته، كما يقول السلف، وهو الأصح، واستولى على العرش كما يقول الخلف، يدبر الأمر، ويقضي بالحق، وهو خير الفاصلين. وكلمة {ثُمَّ} للترتيب الإخباري، لا للترتيب الزمني؛ لأنها ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات.
{الرَّحْمنُ، فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} أي إن ذلك الخالق هو العظيم الرحمة بكم، فلا تتكلوا إلا عليه، واستعلم أيها السامع من هو خبير به، عالم بعظمته، فاتبعه واقتد به. ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فما قاله فهو الحق، وما أخبر به فهو الصدق، وهو الإمام المحكم فيما يتنازع فيه البشر:{إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى} [النجم 4/ 53].
تبين مما ذكر أن الله سبحانه لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتوكل عليه، وصف نفسه بأمور ثلاثة هي:
الأول-أنه حي لا يموت، وهو قوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} .
الثاني-أنه عالم بجميع المعلومات، وهو قوله:{وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً} .
الثالث-أنه قادر على جميع الممكنات، وهو المراد من قوله:{الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما} لأنه لما كان هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ولا خالق سواه، ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضارّ، وأن النعم كلها من جهته، فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه.
أما الكفار فقابلوا الشكر والتوكل بالكفر والاعتماد على النفس، فقال تعالى:{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اُسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ} أي وإذا طلب منهم السجود لله الرحمن الرحيم، وعبادته وحده دون سواه، قالوا: لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسم {الرَّحْمنُ} وإذا كنا لا نعرف الرحمن فكيف نسجد له. وهذا شبيه بقول موسى لفرعون:{إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الأعراف 104/ 7] فقال فرعون: {وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} [الشعراء 23/ 26].
{أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً} أي أنسجد للذي أمرتنا بالسجود له، لمجرد قولك، من غير أن نعرفه، وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وإعراضا، وبعدا عن الحق والصواب، ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول.
وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان يشرع السجود عندها لقارئها ومستمعها. وهذا شأن المؤمنين الذين يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويفردونه بالألوهية، ويسجدون له. روى الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فهذا هو المراد من قوله:{وَزادَهُمْ نُفُوراً} أي فزادهم سجودهم نفورا.
وبعد أن حكى سبحانه عن الكفار مزيد النفرة عن السجود، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن، فقال:
{تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً} يمجّد الله تعالى نفسه ويعظمها على جميل ما خلق في السموات، فيذكر أنه تعاظم وتقدس الله الذي جعل في السماء كواكب عظاما ومنازل لتلك الكواكب السيارة وغيرها، التي عدها المتقومون ألفا، ورصدتها الآلات الحديثة أكثر من مائتي ألف ألف، وجعل في السماء سراجا وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود، كما قال:{وَجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً} [النبأ 13/ 78] وجعل في السماء أيضا قمرا منيرا، أي مشرقا مضيئا، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس 5/ 10].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً} أي والله هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ويأتي بعده، توقيتا لعبادة عباده له عز وجل. فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار،