الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منه، فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجها إياه، ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكا، والله أعلم
(1)
.
خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام
يحسن أن أوجز هنا خصائص سليمان ومعجزاته ونعم الله عز وجل عليه مما ذكر في القرآن كله، بعد أن أوردت هذه السورة مواقف أربعة متميزة في قصته، وحينئذ أكون قد ذكرت إلى هنا مجملا قصص عشرين نبيا أو أكثر تحت عنوان: أضواء من التاريخ على قصة أو حياة كل نبي أو رسول.
ومن المعلوم أن سليمان ذكر في القرآن (16) ست عشرة مرة في سور:
البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وأوضح الآن نعم الله الكثيرة عليه وهي ما يأتي
(2)
:
1 -
ذكاؤه وفراسته في القضاء: منح الله تعالى سليمان عليه السلام ذكاء نادرا وإصابة في القضاء والحكم، بدليل قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم الراعي، فكان حكمه كما بينا في سورة الأنبياء أصوب من حكم أبيه داود عليه السلام، كما قال تعالى:{وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنّا فاعِلِينَ} [الأنبياء 78/ 21 - 79].
2 -
تعليمه منطق الطير: إن الله تعالى علّم سليمان منطق الطير، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها، كما تبين في تفسير الآية [16] من سورة النمل:
(1)
تفسير الرازي: 201/ 24
(2)
انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار 317 - 348، ط رابعة.
{يا أَيُّهَا النّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.} . أي أوتي نعما كثيرة، ومنها تعليمه كلاما لا يعلمه سواه.
3 -
تسخير الرياح له: كان لسليمان بساط الريح ينقله من مكان إلى آخر بعيد، ويوجه الريح حيث يشاء، فيأمرها بأن تهب في ناحية ما، كما قال تعالى:{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها} [الأنبياء 81/ 21]، {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} [ص 36/ 38]، {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} [سبأ 12/ 34].
4 -
تربية الخيول وهي الصافنات الجياد للجهاد: كان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه السلام، كما هو مندوب في شرعنا،
قال صلى الله عليه وسلم-فيما رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عروة البارقي-: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والأجر والمغنم» . وكان سليمان يستعرضها كالعروض العسكرية اليوم بمناسبات وطنية أمام الرؤساء، وكان يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله تعالى:{عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} .
وقد أعاد عرضها أمامه يمسح سوقها وأعناقها، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها، وهذا هو المقصود من الآيات:
{رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} [ص 30/ 38 - 33]. وأما تفسير هذه الآيات بما يتنافى مع منصب النبوة، كالاشتغال بالخيول عن صلاة العصر، ثم تقطيع أعناقها وسوقها، فهو باطل لا أصل له، كما ذكر الرازي في تفسيره الكبير.
5 -
فتنة سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه: ذكر الله تعالى بعد قصة عرض الصافنات الجياد هذه الفتنة، فقال: {وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ
جَسَداً ثُمَّ أَنابَ، قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ} [ص 34/ 38 - 37]، وقد اختار الرازي في تفسير هذه الآيات أن سليمان ابتلي بمرض شديد أضناه، أي أثقله حتى صار لشدة المرض كأنه جسد أو جسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى الصحة.
واختار العلامة أبو السعود والألوسي في تفسير هذه الآيات ما ورد في الصحيحين مرفوعا: أنه-أي سليمان-قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» .
والمراد بالسبعين الكثرة وليس تمام العدد، كما هو المألوف في الاستعمال العربي والقرآني لكلمة (سبعين) مثل:{اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة 80/ 9] أي إن تستغفر لهم كثيرا.
وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية فلم تصح ولا يعول عليها.
6 -
إسالة عين القطر (النحاس المذاب) له: أنعم الله على سليمان عليه السلام بتطويع النحاس المذاب له، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة ذات الحجارة الكبيرة، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان، كما ذكر تعالى:{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ 12/ 34].
7 -
تسخير الجنّ له: عدد الله تعالى في الآية السابقة في سورة سبأ النعم العظمى التي أنعم بها على سليمان عليه السلام، فقال: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ
بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ} [سبأ 12/ 34 - 13]. وقال سبحانه بعد ذكر تسخير الرّيح:{وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ} [ص 37/ 38]. وبه تبين أن الله جل جلاله سخر الجنّ كما سخر له الرّيح، فكانت الجن من جنده، تطيعه بما يأمر، وتعمل له ما يشاء من ضخم المباني والعمائر والتماثيل، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم، والقدور الراسيات والجفان (الآنية الواسعة) التي كأنها الحياض لسعتها.
8 -
إسلام ملكة سبأ والإتيان بعرشها: عرفنا في البيان المتقدم في سورة النمل لقصة سليمان مع بلقيس ملكة سبأ أن طير الهدهد أخبره بوجود ملكة عظيمة في سبأ من بلاد اليمن تعبد مع قومها الشمس من دون الله، وأن لها عرشا عظيما مزينا بأنواع الجواهر واللآلئ، فأرسل سليمان رسالة لها مع الهدهد مضمونه:
فاستجابت بلقيس مع قومها لطلب سليمان بعد أن أقنعتهم بألا طاقة لهم بمواجهة جنود سليمان، وآثرت بكمال عقلها وفطنتها السلم والمصالحة والمسالمة والموادعة على الحرب والقتال، بالرغم من توافر قوة عسكرية كبيرة عندها:
{نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} .
فشيّد لها سليمان صرحا عظيما ومرّد أرضه بالزجاج، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به، ثم لما دخلته حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها لخوض الماء لئلا تبتل ثيابها بالماء، ثم أحضر لها عرشها من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، ليكون دليلا على صدق نبوته، ومعجزة على صحة رسالته، وآية على قدرة الله العجيبة في خرق العادات وتجاوز المحسوسات، مما لم يكتشف العلم سره ونواميسه إلى الآن، فما كان من بلقيس إلا أن أسلمت وآمنت برسالة سليمان، فقالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} .
9 -
قصة النملة: كان سليمان بتعليم الله وإرشاده يفهم أيضا لغة النمل، كما يفهم منطق الطير، وذلك كله من المعجزات الخارقة للعادة، وقد بيّنا كيفية فهم سليمان خطاب النملة في بني جنسها:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} [النمل 17/ 27 - 19].
10 -
موت سليمان عليه السلام: أعمى الله موت سليمان على الجان المسخرين لخدمته في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئا على عصاه (منسأته) بعد موته مدة طويلة نحوا من سنة كما يقال، فلما أكلتها الأرضة (دابة الأرض) ضعفت وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وهو أمامهم، وتبينت الجن والإنس أنهم لا يعلمون الغيب قطعا، فقال تعالى:{فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ} [سبأ 14/ 34]. وهذا من تكريم الله لسليمان عليه السلام، وإلقاء هيبته على الجنّ والإنس حتى بعد موته.