الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ، قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي لما جاء الرسول ومعه أتباعه بالهدية إلى سليمان، لم ينظر إليها، وأعرض عنها، وقال منكرا عليهم: أتمدونني بمال؟ أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ إن الله تعالى أعطاني خيرا كثيرا مما أعطاكم وهو النبوة، والملك الواسع العريض، والمال الوفير، فلا حاجة لي بهديتكم، وإنما أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف وتفرحون بها، وأما أنا فلست طالبا للدنيا الزائلة، وإنما أطالبكم بالدخول في دين الله وترك عبادة الشمس، ولا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.
{اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً، وَهُمْ صاغِرُونَ} أي ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإنا سنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله رب العالمين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1 -
أدب الخطاب وخصوصا في مجال الدعوة إلى الله تعالى في مكاتبات الملوك ورؤساء الدول مطلوب شرعا، لذا وصفت بلقيس كتاب سليمان عليه السلام بأنه كتاب كريم، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبّا ولا لعنا، ويؤيده قول الله عز وجل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم:{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل 125/ 16] وقوله لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} [طه 44/ 20].
والوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة 77/ 56].
2 -
كانت عادة المتقدمين في المكاتبة أو المراسلة أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وسار السلف الصالح من أمتنا على هذا المنهج معاملة بالمثل،
قال ابن سيرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أهل فارس إذا كتبوا بدؤوا بعظمائهم، فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه» وقال أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا بدؤوا بأنفسهم.
لكن لو بدأ الكاتب بالمكتوب إليه جاز؛ لأن الأمة اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوها في ذلك، فالأحسن في زماننا ومن عدة قرون أيضا أن يبدأ الكاتب بالمكتوب إليه، ثم بنفسه، لأن البداية بنفسه تعدّ منه استخفافا بالمكتوب إليه، وتكبرا عليه.
3 -
إذا كانت التحية واردة في رسالة ينبغي على المرسل إليه أن يرد الجواب؛ لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام.
4 -
اتفق العلماء على البدء بالبسملة: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها؛ لأنه أبعد من الريبة،
وجاء في الحديث المتقدم: «كرامة الكتاب ختمه»
واصطنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتما، ونقش على فصه:
«لا إله إلا الله محمد رسول الله» .
5 -
كان مضمون كتاب سليمان مع وجازته مشتملا على المقصود وهو إثبات وجود الله وصفاته الحسنى، والنهي عن الانقياد للهوى والنفس والترفع والتكبر، والأمر بالإسلام والطاعة، بأن يأتوه منقادين طائعين مؤمنين.
والبسملة في هذا الموضع آية قرآنية بإجماع العلماء، فيكفر منكرها هنا.
6 -
المشاورة أمر مطلوب في كل شيء عام أو خاص ما لم يكن سرا؛ لأنها تحقق نفعا ملحوظا للتوصل إلى أفضل الآراء وأصوبها، وخصوصا في الحروب والمصالحات وقضايا الأمة العامة، فإنه ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة، قال الله له:{وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران 159/ 3] إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء، ومدح الله تعالى الفضلاء بقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} [الشورى 38/ 42].
والمشاورة نهج قديم، وبخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس قبل إسلامها:{قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ} قالت ذلك لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم في أمرهم، ومدى طاعتهم لها. وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده، وربما كان في استبدادها مكمن الخطر والضعف والسقوط في النهاية.
وقد نجحت في هذه المشاورة، فسلّموا الأمر إلى نظرها، مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة:{وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ} ثم وجّهتهم إلى مراعاة قوة الملوك وشدة بأسهم، حماية لهم وحفظا لبلادهم، وأن من عادتهم الإفساد والتخريب، والتدمير والإهلاك، والإذلال والإخراج من البلاد، وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.
7 -
كان من حسن نظر الملكة بلقيس وتدبيرها اختبار أمر سليمان بإرسال هدية عظيمة إليه، فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض إلا اتباعهم على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية، وللهدية تأثير في كسب المودة والمحبة، واستلال الحقد والضغينة، وإنهاء الخصومة والمشاحنة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عائشة يقبل الهدية ويثيب عليها، ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها؛ لأنه قال لها في كتابه:{أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة؛ لأنها تورث المودة، وتذهب العداوة،
روى مالك عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشحناء»
وعن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم، فإن الهدية تذهب السّخيمة» .
وروى البزار عن أنس بإسناد ضعيف: «تهادوا، فإن الهدية تسلّ السخيمة» .
قال القرطبي: وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة.
أما سليمان عليه السلام فإنه رد هدية بلقيس؛ لأنها كانت بدلا عن السكوت عن الحق وعن الدعوة إلى الإسلام والإيمان، وواجب الرسل التبليغ دون أجر، ودون مهادنة أو مساومة؛ لأن غرضهم إرضاء الله، ونشر العقيدة والفضيلة والإخلاص في عبادة الله تعالى. لذا انضم إلى رده الهدية إنذارهم بالحرب والقتال بجيوش لا طاقة لهم على مقاومتها، وتهديدهم بالإخراج من أرضهم أذلة قد سلبوا ملكهم وعزمهم، مهانين محتقرين إن لم يسلموا.
وقد حقق الإنذار الغاية منه، فجاءت بلقيس مع حاشيتها وجنودها مسلمين منقادين طائعين، كما أبانت الآيات التالية.