الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أجاب موسى عن فضل التربية لفرد والإساءة إلى جماعة وهم بنو إسرائيل فقال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} أي وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل قومي، فجعلتهم عبيدا وخدما، يقومون في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له قيمة بالنظر إلى الإساءة إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
فقوله: {عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} معناه اتخذتهم عبيدا لك مستذلّين. وإنما جمع الضمير في {مِنْكُمْ} و {خِفْتُكُمْ} مع إفراده في {تَمُنُّها} و {عَبَّدْتَ} لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله تعالى المتقدم:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد
(1)
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا هو الفصل الأول من قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، ويستفاد منه ما يأتي:
1 -
كان إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، ومعه قومه الظالمون بالشرك واستعباد الضعفاء إعذارا وإنذارا، حتى لا يبقى لهم ولأمثالهم حجة يتذرعون بها للجهل بحقيقة الإيمان والدين.
2 -
في قوله: {أَلا يَتَّقُونَ} حثّ شديد على التقوى لمن تدبر وتأمل ووعى المستقبل المنتظر.
3 -
قدّر موسى خطورة المهمة وأداء الرسالة التي كلف بها إلى فرعون فسأل ربّه أمرين: أن يدفع عنه شرهم، وأن يرسل معه هارون نبيا، فأجابه الله تعالى
(1)
الكشاف: 422/ 2.
إلى الأمرين، فهدّأ خوفه وروعه، وأمره بالثقة بالله تعالى، وأيّده بنصره وعونه، وجعل أخاه رسولا مثله، ليؤازره ويعاونه، كما قال تعالى:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه 29/ 20 - 32]، وقال سبحانه:{فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص 34/ 28].
قال القرطبي: وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة، بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم
(1)
.
4 -
لا بدّ من اتخاذ الأسباب لكل مهمة خطيرة أو غير خطيرة، فذلك مأمور به شرعا، كما أن الحذر مطلوب، وتقدير المخاطر مما يوجبه الشرع والعقل.
5 -
لم يتردد موسى وأخوه هارون بعد هذا التأييد الإلهي من الذهاب إلى فرعون الظالم، وأعلنا له أنهما رسولان إليه من ربّ العالمين، وهذا واجب التبليغ الذي لا بدّ فيه من الجرأة والشجاعة والصبر، حتى إنه ذكر أن فرعون لم يأذن لهما سنة في الدخول عليه، ثم أذن استهزاء، فدخلا عليه وأدّيا الرسالة.
6 -
كان مطلب موسى وهارون بعد إعلان الرسالة والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك مطلبا عدلا، وهو إخلاء سبيل بني إسرائيل حتى يسيروا مع هذين الرسولين إلى فلسطين، وإنهاء عهد الاستعباد، فإن فرعون استعبدهم أربع مائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مائة وثلاثين ألفا.
7 -
إن حادثة قتل القبطي من قبل موسى عليه السلام كانت قبل النبوة في
(1)
تفسير القرطبي: 92/ 13.
عهد الشباب، بدليل قوله بعدئذ:{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، وحدثت تلك الحادثة خطأ من غير تعمد القتل، وجهلا بأن الوكزة تؤدي إلى القتل. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون عن ذلك أولا.
8 -
قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ} مختلف في معناه وفائدته:
-قال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
-وقال قتادة وغيره: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار، أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم، فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟! وقال الأخفش والفراء أيضا: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة؟! -وقال الضحّاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به.
والظاهر لي هو المعنى الثاني، وهو ما جريت عليه في أثناء التفسير.