الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر الله كثيرا في كلامهم، والانتصار من الظالم بعد ظلمه، والانتصار يكون بالحق وحده وبما حدّه الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. ثم حذر القرآن وهدد من انتصر بظلم، فإنه سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة.
موقف الإسلام من الشعر:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الشعر، منها ما أقره، ومنها ما ذمّه، فمن الأحاديث التي ذمّت الشعر:
ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه
(1)
خير من أن يمتلئ شعرا».
ومن الأحاديث التي مدحت الشعر
ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحرا، وإن من الشعر حكما» .
ويمكن التوفيق بين الحديثين بحمل الأول على الشعر المذموم الرديء المردود، كالشعر الذي يتكلم في الغزل الخليع، ويشبّب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان فنا رائعا في الأدب. ومنه شعر الشاعر الذي يتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ومثل هذا، كلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، ولا يحل إعطاؤه شيئا؛ لأن ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه للضرورة بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة.
(1)
ورى القيح جوفه يريه وريا: أكله. والقبح: المدّة يخالطها دم.
ومنه شعر الهجاء الذي لم يقصد به هجو الكفار ونصرة الإسلام والمسلمين، فإن كان انتصارا لمن هجا المسلمين، وشبب بأعراضهم جاز، وكان مستحسنا؛ لقوله تعالى:{لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء 148/ 4].
ويحمل الحديث الآخر على الشعر الممدوح الحسن المقبول الذي قصد به إظهار الحق، وإيراد الحكمة، وتعليم الجاهل، ونصرة المظلوم والحق، والدفاع عن الوطن، والذود عنه بجيد الكلام، ونحو ذلك من كل ما فيه نفع، وتربية للنفوس، وتهذيب للعقول، وتوحيد الصفوف.
وهذا التوفيق بين الحديثين ما هو إلا نوع من وسطية الإسلام المعروفة، والاعتدال في الأشياء كلها؛
روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» .
(1)
وردد هذا المعنى كبار الأئمة وعلماء اللغة والأدب، فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الشعر نوع من الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمضمونه، وقد كان عند العرب عظيم الأثر والموقع.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النّهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثّل به أو سمعه، فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء، لا يحل سماعه ولا قوله. والخلاصة: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم.
(1)
رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو، وأبو يعلى عن عائشة، وهو حسن.
ومن الأمثال الرائدة والنماذج الطيبة للشعر الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
1 -
روي مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصّلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال:
هيه، حتى أنشدته مائة بيت.
قال القرطبي: وهذا دليل على جواز حفظ الأشعار المتضمنة للحكمة والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا وعقلا، أي والداعية إلى فضائل الأخلاق. وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيما؛ ألا ترى
قوله صلى الله عليه وسلم: «وكاد أمية بن أبي الصّلت أن يسلم» .
2 -
فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه، فذلك مندوب إليه، وكذلك مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مدحه العباس،
فقال له: «لا يفضض الله فاك» ومنه الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أقر حسّان بن ثابت على ذلك،
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم-أو هاجهم-وجبريل معك» أو «قل وروح القدس معك» .
وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» أو «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل» .
3 -
روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة-أو أشعر كلمة-قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» .
أما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم: فهو المتكلم بالباطل، حتى يفضّلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء،
ويفسقوا التقيّ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحة بعنوان (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر).
لكن قد يكون الشعر حراما كما بينا في أغراضه وفي أمثلة الشعر المذموم، وقد يكون كفرا كهجو النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان قليلا أو كثيرا. وأما هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين فهو محرم قليله وكثيره.
قال ابن العربي: أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها، وإن استغرقت الحدّ، وتجاوزت المعتاد. ثم قال: وبالجملة، فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه، فذلك مذموم شرعا
(1)
.
وقد أنهى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مشكلة تكسب الشعراء بشعرهم، فلم يعطهم العطايا المعتادة، وكشف حقائقهم، وساسهم بمنطق الشرع وعدله، فأعطى الفرزدق أربعة آلاف درهم، لئلا يعرض لأحد من أهل المدينة بمدح ولا هجاء، ومنح الأحوص أحد شعراء المدينة مائة دينار، على أن يكف عن هجاء أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعاقب الشاعر جرير بالرغم من مدحه، مع عمرو بن لجأ التيمي، لما تهاجيا وتقاذفا، وغضب على شاعر الخلاعة والعزل والتشبيب بالنساء عمر بن أبي ربيعة، ونفاه إلى دهلك، لكثرة تعرضه لنساء الأشراف وبناتهم
(2)
.
(1)
أحكام القرآن: 1434/ 3 وما بعدها.
(2)
الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز للمؤلف 62 وما بعدها، المرجع السابق: 1430/ 3.