الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها كافية في وجوب الشكر، مستحقة للحمد والثناء على المتفضل المنعم بها. وفيه الدليل على البر بالوالدين والدعاء لهما بعد موتهما.
ومن وقائع فهم سليمان كلام النمل: ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: «خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم» .
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1 -
إن نعمة العلم من أجل النعم وأشرفها وأرفعها رتبة، وإن من أوتي العلم فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين، كما قال تعالى:{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} [المجادلة 11/ 58].
2 -
كان إرث سليمان من والده داود عليهما السلام هو النبوة والملك، وليس وراثة مال، وإلا لكان جميع أولاد داود التسعة عشر فيه سواء. والمقصود أنه صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، كما
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي الدرداء مرفوعا: «العلماء ورثة الأنبياء» أي ورثتهم في العلم والحكمة وفهم أمور الدين والدنيا على حقيقتها. ودليل ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: إنا معشر الأنبياء «لا نورث» .
3 -
تقتضي نعمة العلم وغيره شكر المنعم وحمده على فضله وإحسانه، كما فعل داود وسليمان عليهما السلام، ودل قولهما على تواضع العلماء والاعتقاد بأنه وإن فضلا على كثير، فقد فضل عليه أناس مثلهما، وهذا مشابه لقول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.
4 -
عدد الله في القصة نعما ثلاثا على سليمان عليه السلام: هي تعليمه منطق الطير وإيتاؤه الخير الكثير، وتسخير الجن والإنس والطير، وفهمه خطاب النملة. وأصوات الطيور والبهائم هو منطقها، وفي مناطقها معاني التسبيح وغير ذلك، كما أخبر تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء 44/ 17].
5 -
بدأ سليمان عليه السلام في تعداد هذه النعم قائلا: {يا أَيُّهَا النّاسُ} وهذا تشهير لنعمة الله، وتنويه بها، واعتراف بمكانها، ودعوة الناس إلى التصديق برسالته بذكر المعجزة وهي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.
6 -
اشتمل دعاء سليمان عليه السلام على طلب الإلهام من الله شكر ما أنعم به عليه، وعلى توفيقه لزيادة العمل الصالح والتقوى، فهو عليه السلام بعد أن سأل ربه شيئا خاصا وهو شكر النعمة، سأل شيئا عاما وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى.
7 -
دل قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} على جواز اتخاذ الإمام والحكام وزعة (أي عرفاء) يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
هذا.. وقد علّق ابن العربي على قول عثمان: «ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن» فقال:
وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافّة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها،
وقصّروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية منها، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها.
ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور
(1)
.
8 -
ما حكاه تعالى من قول النملة: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} حسن اعتذار، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله {ضاحِكاً} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، وسرور النبي بأمر الآخرة والدين، لا بأمر الدنيا.
9 -
أفهم الله تعالى النملة هذا الكلام لتكون معجزة لسليمان عليه السلام.
10 -
أودع الله في كل حيوان غرائز معينة، يهتدي بها إلى ما ينفعه، ويمتنع بها عما يضره. ومن درس طبائع الحيوانات وعرف خصائصها، أدرك فيها عجائب مثيرة، وإلهامات غريبة، وذلك يدعو إلى الإيمان بالله الخالق الموجد الملهم، وسبحانه أبدع كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون حينما قال له ولأخيه هارون:{قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى} [طه 49/ 20 - 50].
(1)
أحكام القرآن: 1438/ 3.