الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للمارة {تَعْبَثُونَ} تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا، كاللعب {مَصانِعَ} مجامع الماء ومآخذه، وقيل:
قصورا مشيدة وحصونا {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي كأنكم تخلدون فيها لا تموتون، ولعل هنا: للتشبيه {وَإِذا بَطَشْتُمْ} بضرب أو قتل، والبطش: الأخذ بالعنف {جَبّارِينَ} متسلطين عاتين بلا رأفة ولا شفقة، ولا قصد تأديب {فَاتَّقُوا اللهَ} بترك هذه الأشياء {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه؛ فإنه أنفع لكم.
{أَمَدَّكُمْ} أنعم عليكم أو سخر لكم {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ} كرره للتأكيد والتنبيه على دوام الإمداد، والوعيد على تركه بالانقطاع {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإنعام، قدر على الانتقام {سَواءٌ عَلَيْنا} مستو عندنا {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ} أصلا، أي لا نرعوي لوعظك عما نحن عليه. والوعظ: كلام لطيف يلين القلب بذكر الوعد والوعيد.
{إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} أي ما هذا الذي خوفتنا به إلا خلق المتقدمين وكذب الأولين وعادتهم وطبيعتهم ونحن بهم مقتدون، فلا حساب ولا بعث، والمراد: عادتهم في اعتقاد ألا بعث {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه {فَكَذَّبُوهُ} بالعذاب {فَأَهْلَكْناهُمْ} بسبب التكذيب في الدنيا بريح صرصر.
المناسبة:
هذه قصة أخرى للعظة والعبرة، هي قصة هود عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله وطاعته، وحذرهم من عقابه، وهم في الزمان بعد قوم نوح، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} [الأعراف 69/ 7] وكانوا يسكنون الأحقاف: وهي جبال الرمل قرب حضرموت في بلاد اليمن. وكانوا أولي طول مديد وبأس وشدة، ورخاء ونعيم، بسبب كثرة الأرزاق والأموال والأنهار والزروع والثمار، لكنهم مع ذلك كانوا يعبدون غير الله تعالى، وكذبوا نبيهم هودا عليه السلام، فأهلكهم.
التفسير والبيان:
أي كذبت قبيلة عاد رسالة الرسل المرسلين من عند الله، حين قال لهم هود عليه السلام: ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إني لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله فيما أمر ونهى، وأطيعوني فيما آمركم وأنهاكم عنه، يصلح حالكم، وتسعدون في دنياكم وأخراكم، ولا أطلب منكم على تبليغ رسالتي أجرا ولا مالا، ولا أبتغي بذلك سلطانا ولا جاها، إن أجري وجزائي إلا على ربي لو علمتم ذلك، ولكنهم كذبوه وآذوه.
وهذه المقالة بعينها جاءت على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه على وحدة رسالة الأنبياء الداعية إلى توحيد الله وطاعته، وترك عبادة ما سواه.
ثم تكلم معهم هود عليه السلام على ثلاثة أمور:
1 -
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} أي أتعمرون في كل مكان مرتفع بنيانا محكما هائلا باهرا، يكون علامة على القوة والعزة والغنى تفاخرا، وإنما تفعلون ذلك عبثا لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، لا للحاجة إليه، لذا أنكر عليهم؛ لأنه تضييع للزمان، وإتعاب الأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة.
2 -
{وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي وتتخذون قصورا مشيدة وحصونا، لكي تقيموا فيها أبدا، كأنكم مخلدون في الدنيا، أو ترجون الخلد في الدنيا، مع أنكم زائلون عنها، كما زال من كان قبلكم. وقيل: المصانع: مآخذ الماء.
روى ابن أبي حاتم رحمه الله أن أبا الدرداء رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم، فنادى:
يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون،
ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان خيلا وركابا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟! 3 - {وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ} أي إنكم مع ذلك السرف والحرص، تعاملون غيركم معاملة الجبارين؛ لأنكم قوم قساة غلاظ عتاة متجبرون.
والخلاصة: أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، فهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو، وهذه صفات الإله، وهي ممتنعة الوصف للعبد، فدل ذلك على حب الدنيا، والخروج عن حد العبودية، والحوم حول ادعاء الربوبية.
وفي هذا تنبيه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وعنوان كل كفر ومعصية، لذا قال:
{فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاحذروا عقاب الله، واعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم، فذلك أدوم لكم وأنفع، إذ لا خلود لأحد في هذه الدنيا.
ثم ذكّرهم نعم الله عليهم تفصيلا، فقال:
{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ} أي اتقوا عقاب الله الذي أمدكم بنعم وفيرة، ورزقكم أنواع الحيوانات المأكولة والأولاد الكثيرة، والبساتين الغنّاء والأنهار العذبة الفياضة، فاجعلوا مقابل هذه النعم عبادة الله الذي أنعم بها.
{إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إني أخشى عليكم إن كذبتم وخالفتم وأصررتم على الكفر عذاب يوم شديد الأهوال.
وقد دل هذا على أنه دعاهم إلى الإيمان بالله بالحسنى وبالترغيب والترهيب، والتخويف والبيان، بما هو النهاية في ذلك، فكان جوابهم:
{قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ} أي يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا، وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرجع عما نحن عليه، كقوله تعالى:{وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود 53/ 11]. وقال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة 6/ 2]. وذريعتهم في عدم إيمانهم هي:
{إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي ما جئت به اختلاق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، كما قالوا:{أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أو ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، ونحن تابعون لهم، سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، وما نحن بمعذّبين أبدا؛ لأنه ليس الأمر كما تقول.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ} أي فكانت النتيجة أنهم كذبوا هودا عليه السلام فيما أتى به، واستمروا على تكذيبه ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، أي ريح شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا، فكان سبب إهلاكهم من جنس عملهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ} [الفجر 6/ 89 - 7] وهم عاد الأولى، كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى} [النجم 50/ 53] وهم من نسل إرم بن سام بن نوح، وذات العماد: الذين كانوا