الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ} قد عرفنا أن هذه المقالة مشابهة لما سبقها من مقالة نوح وهود عليهما السلام.
والمعنى: أن قبيلة ثمود كذبت برسالة نبيهم صالح عليه السلام حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله، فتؤمنوا به وتوحدوه وتعبدوه، وتطيعوني فيما بلغتكم من الرسالة، فإني رسول من عند الله تعالى، أمين على رسالته التي أرسلها معي إليكم، ولا أطلب على نصحي وتبليغي عوضا ولا جزاء، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني، وهو يتولاني في الدنيا والآخرة.
ثم وعظهم، وحذرهم نقم الله أن تحل بهم، وذكّرهم بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الطيبات، وفجّر لهم العيون والأنهار، وأنبت لهم الزروع والثمرات، وجعلهم في أمن من المحذورات، فقال مخاطبا لهم بأمور ثلاثة:
1 -
{أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ} ؟ أي أتظنون أنكم في الدنيا مخلّدون في النعيم، وأنكم تتركون في دياركم آمنين، متمتعين في الجنات والعيون، والنخيل ذات الرطب الهضيم اللين اللطيف، والزروع والثمار، وتطمعون في ذلك، وتظنون ألا دار للجزاء على الأعمال؟ لا يعقل أن تبقوا على الشرك والكفر، وأنتم ترفلون في هذه النعم، وتتمتعون بهذه الخيرات.
وقوله: {فِي ما هاهُنا آمِنِينَ} أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فصّله وفسره بقوله:{فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ..} . إلخ، فهو تفصيل بعد إجمال.
2 -
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} أي وتتخذون بيوتا في الجبال حاذقين في نحتها وبنائها، بطرين فرحين أشرين بها، متنافسين في عمارتها، من غير حاجة إلى السكنى فيها. فاتقوا الله حق التقوى، وأقبلوا على ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم.
ويلاحظ أن الغالب على قوم هود الذين تقدم وصفهم هو اللذات المعنوية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية المادية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة.
3 -
{وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي ولا تطيعوا أمر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا والترف والمجون، وهم كبراؤهم ورؤساؤهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق، وهم الرهط التسعة في أرض ثمود المشار إليهم في آية أخرى:{وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل 49/ 27]. وإنما قال {وَلا يُصْلِحُونَ} بعد قوله {يُفْسِدُونَ} لبيان أن فسادهم خالص، ليس معه شيء من الصلاح، على عكس حال بعض المفسدين المخلوطة أعمالهم ببعض الصلاح.
فأجابوا نبيهم صالحا عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل بقولهم: {قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي قال قومه: ثمود، الذي يغلب على الظن أنك أصبحت من المغلوب على عقولهم بكثرة السحر، وصرت من المسحورين، أي إنك في قولك هذا مسحور لا عقل لك، فلا يسمع لرأيك ولا لنصحك.
{ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحي إليك دوننا، وتكون نبيا لنا؟ كما قالوا في آية أخرى:
{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ} [القمر 25/ 54 - 26]. وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين، لكانوا من جنس الملائكة.
ثم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم، وهو أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء (حامل لعشرة أشهر) صفتها كذا وكذا، فما كان منه إلا أن أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح عليه السلام، فصلى، ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء، على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم.
(1)
{قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي إن النبي صالح عليه السلام قال مجيبا طلبهم إرسال آية تكون دليلا على صدقه: الدليل هو ناقة الله هذه، فهي الآية والمعجزة الدالة على صدقي، ترد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم.
{وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي وإياكم أن تصيبوها بأذى من ضرب أو قتل أو غير ذلك، فيصيبكم عذاب شديد. وقد عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم بالعظم أبلغ من وصف العذاب؛ لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب، كان موقعه من العظم أشد.
{فَعَقَرُوها، فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ} أي ذبحوا الناقة، ثم ندموا على فعلهم عند معاينة العذاب، أي حين علموا أن العذاب نازل بهم، فنالهم
(1)
تفسير ابن كثير: 344/ 3، تفسير القرطبي: 130/ 13، وهذا مرويّ عن ابن عباس، وربما كان الأمر محتاجا إلى رواية موثقة ثابتة السند ليجب علينا الاعتقاد بذلك.