الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان تسخير الجن والإنس والطير لسليمان عليه السلام، أبان الله تعالى هنا أن سليمان تفقد طير الهدهد، فلم يجده، ثم حضر فأخبره عن مملكة بلقيس، وعن عبادتهم الشمس.
التفسير والبيان:
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ، فَقالَ: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ} أي بحث سليمان عن الهدهد بين جنوده، وكان له علم بمنطق الطير، وكانت الطيور مسخرة له كالريح وغيرها، فقال متعجبا: كيف لا أرى الهدهد؟ علما بأنه لم يأذن له بالغياب، بل هو من الغائبين دون أن أعلم بغيبته. وفي العبارة قلب، أي ما للهدهد لا أراه؟! وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا؟ أي مالك؟.
وذكر المفسرون أن سبب بحثه عنه أنه كان يدل على مكان وجود الماء تحت الأرض، بنقره فيها، فيستخرج منها من طريق الجن أو الشياطين، كما كان يرشد سليمان وجنوده إلى الحد الفاصل بين قريب الماء وبعيده أثناء السير بفلاة من الأرض.
وحين تثبّت من غيابه توعده بالعذاب إذا كان بغير عذر مقبول، فقال تعالى:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي أنه هدده بالقتل أو بالتعذيب والعقاب الشديد كنتف ريشه إلا أن يأتي ببرهان واضح يبين عذره، أي إن التهديد والوعيد كان بأحد أمرين إن لم يأت بالأمر الثالث وهو العذر الواضح البيّن.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي غاب الهدهد زمانا يسيرا ثم جاء فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال
لسليمان: اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك، وجئتك من مدينة سبأ بخبر صدق متيقّن، والأكثر على أن {سَبَإٍ} مصروف؛ لأنه اسم بلد. وأهل سبأ: هم حمير وهم ملوك اليمن. والأكثر على أن الضمير في {فَمَكَثَ} يعود للهدهد، ويحتمل أن يكون لسليمان، والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل، أي غير وقت طويل.
وقد كان الهدهد ماهرا بالدفاع عن نفسه بتلطف وقدرة على اجتذاب النظر إليه وإصغاء السمع لكلامه، وأنه كان يقوم برحلة استكشاف علمية لمملكة سبأ ومعرفة أحوال أهلها في الملك والتدين. ثم عرّف سليمان ببعض المعارف بالرغم مما أوتيه من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة، للتنبيه على وجود العلم والمعرفة عند من هو أضعف منه، وللإرشاد إلى ضرورة تواضع العلماء.
قال الزمخشري: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: أن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه
(1)
.
ومضمون خبر الهدهد ثلاثة أمور هي في هذه الآية:
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي إني وجدت في بلاد سبأ مملكة عظيمة ذات مجد تملكهم امرأة هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها قبلها ملكا عظيم الملك، وأعطيت من متاع الدنيا الشيء الكثير من شراء وغنى، وملك وأبهة، وجيش مسلح بأنواع مختلفة من معدات القتال، وبإيجاز: أوتيت من كل شيء تحتاجه المملكة في زمانها، ولها سرير عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، تجلس عليه، فوصفه بالعظم أي في الهيئة ورتبة السلطان، قال المؤرخون: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد، رفيع البناء، محكم الصنع، فيه ثلاث مائة طاقة من مشرقه ومثلها
(1)
الكشاف: 448/ 2.
من مغربه، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحا ومساء. وهذا ما أشارت إليه الآية التالية المبينة عقيدتهم الدينية.
{وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} أي وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من غير الله، وزيّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فصاروا يرون السيء حسنا، ومنعهم الشيطان عن طريق الحق وعبادة الله الواحد الأحد، فأصبحوا لا يهتدون إليه.
{أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ} أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، وهو الخالق المبدع الذي يخرج إلى الوجود بعد العدم كل شيء مخبوء مغيب في السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن والمخلوقات، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال.
ونظير الآية في القسم الأول منها: {وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت 37/ 41]. ونظيرها في القسم الآخر: {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ} [الرعد 10/ 13].
{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي أنه بعد بيان الدليل على وجود الله وتوحيده، وهو افتقار العالم إليه، نزهه وأبان عظمته، فذكر أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فكل عرش مهما عظم فهو دونه، ومنها عرش بلقيس، فكان الواجب إفراده بالعبادة. فوصف الهدهد عرش بلقيس بالعظم