الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واتساع مذاهب بيانها، وكثرة الأغراض التي يتسابق إليها فرسان الخطابة والكتابة.
*
فضل اللغة العربية:
للغة العربية فضل من جهه اعتدال كلماتها؛ فإنا نجد أكثر ألفاظها قد وضع على ثلاثة أحرف، وأقل من الثلاثي ما وضع على أربعة أحرف، وأقل من الرباعي ما وضع على خمسة أحرف، وليس في اللغة كلمة ذات ستة أحرف أصلية، وقد جاءت ألفاظ قليلة جداً على حرف واحد، أو على حرفين.
ولها فضل من جهة فصاحة مفرداتها، فليس في كلماتها الجارية في الاستعمال ما يثقل على اللسان، أو ينبو عنه السمع. وللعارف بحسن صياغة الكلام أن يصنع من مفرداتها المأنوسة الوضاءة قطعاً أو خطبًا أو قصائد تسترق الأسماع، وتسحر الألباب، ولعناية العرب بتهذيب الألفاظ زعم قوم أن العرب تعنى بالألفاظ، وتغفل المعاني، وهؤلاء هم الذين رد عليهم ابن جني في باب مستقل من كتاب "الخصائص"، ومما قال في هذا الباب:"فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غرويها وأرهفوها، فلا ترينَّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدْمة منهم للمعاني، وتنويه وتشريف، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتزكيته".
كانت اللغة الفارسية في الشرق هي التي يمكن - بما لها من فصاحة وحسن بيان - أن يوازَن بينها وبين اللغة العربية، وقد شهد بعض الأعاجم الذين عرفوا اللغتين بأن العربية أرقى مكانة، وألطف مسالك، قال ابن جني في "الخصائص": "إنا نسأل علماء العربية ممن أصله أعجمي، وقد تدرب
قبل استعرابه، عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك؛ لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه. سألت غير مرة أبا علي عن ذلك، فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته".
وقد استدلّ بعض علماء الأدب بما كتبه أرسطو في "الشعر" على أن الشعر العربي أرقى من الشعر اليوناني.
قال حازم في كتاب "المناهج الأدبية"(1): "ولو وجد أرسطو في شعر اليونان ما يوجد في شعر العرب؛ من كثرة الحكم والأمثال، والاستدلالات، واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظًا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني، وحسن تصرفهم في وضعها، ووضع الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقتراناتها، وطلب التفاتاتهم وتمنياتهم، واستطراداتهم وحسن مآخذهم ومنازعهم، وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاؤوا؛ لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية".
هذه شهادات صادرة ممن يعتقدون أن للغة العربية فضلاً من جهة أنها اللسان الذي نزل به القرآن الكريم.
وإليك شهادات ممن لا يؤمنون بالقرآن، وإنما ينظرون إلى اللغة من ناحية حسن البيان.
قال المستشرق أرنست رينان في كتابه "تاريخ اللغات السامية": "من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحَّل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها،
(1) توجد نسخة من هذا الكتاب بالمكتبة الصادقية في تونس.
ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت، ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة - لا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة".
وقد ذكر محاسن العربية رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية، وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية.
قال المطران يوسف داود الموصلي: "من خواصّ اللغة العربية وفضائها: أنها أقرب سائر لغات الدنيا إلى قواعد المنطق؛ بحيث إن عباراتها سلسلة طبيعية، يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريده من دون تصنع وتكلف، باتباع ما يدله عليه القانون الطبيعي، وهذه الخاصية إن كانت اللغات السامية تشترك فيها مع العربية في وجه من الوجوه، فقلما نجدها في اللغات المسماة "الهندية الجرمانية"، ولا سيما الإفرنجية منها".
لندع الحكم بين اللغة العربية وأي لسان أعجمي لمن يعرف العربية الفصحى، ويعرف ذلك اللسان الأعجمي، فهو الذي قد يصغي إليه الناس متى آنسوا فيه الإنصاف، ويتلقون حكمه بالقبول. والذي أقوله، وأنا على بينة مما أقول: إن أساليب اللغة العربية أقرب إلى النظم الطبعية من اللسان الألماني؛ فإن في اللسان الألماني ضروباً من التصرف يفقد بها الكلام ترتيبه الطبعي، وليس لهذه الضروب في العربية الفصحى من شبيه، وسنلمّ بشيء من أمثلة ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.