الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشيخ ابن سينا في "كتاب الشفا": إن النفوس تنشط وتلتذ بالمحاكاة، فيكون ذلك سبباً لأن يقع عندها للأمر فضل موقع، والدليل على فرحهم بالمحاكاة؛ أنهم يسرون بتامل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة المنظر المتقزر منها، ولو شاهدوها أنفسها، لنفرت أنفسهم عنها، فيكون الفرح ليس بنفس تلك الصورة، ولا المنقوش، بل كونها محاكاة لغيرها إذا كانت قد أتقنت، ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذاً إلى الفلاسفة فقط، بل إلى الجمهور، لما في التعليم من المحاكاة؛ لأن التعليم تصوير ما للأمر في رقعة النفس. وإذا كان التعبير بالألفاظ من قبيل التصوير ونقش المثال، فالصورة التي يمثلها الصانع بمقدار جمعها لخواص الممثل، وعلى حسب جودة أصباغها، وتناسب أوضاعها، تلذها العيون، ويرتاح الطبع عند النظر إليها، كذلك العبارة على قدر ما تسع من المعاني، وتحتوي عليه من الألفاظ السائغة، وحسن الائتلاف في التركيب، تطرب لها الأسماع، وتستعذبها الأذواق، ومن هذه الجهة يدخل العادلون إلى الحكم والتفضيل بين العبارات واللغات، فما كان أوسع دائرة في تصوير الغرض، وأرشق في مبانيه، وأحكم في نسيجه، كان أحق بالشرف، وأحرز للسباق.
*
تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية:
مما لا سبيل للشبهة فيه، أن الشخص الذي يحل بين أقوام يجهل لغتهم، يبقى منفرداً عن جامعتهم، غيرَ معدود في زمرتهم، وتتوعر أمامه الطرق الموصلة إلى انخراطه في سلكهم، وتبادل المنافع معهم، فإذا تعلم من لسانهم ما يطلع به على آدابهم وعوائدهم ومعارفهم، انعقدت بينه وبينهم صلة التعارف والمعاشرة، وأصبح عضواً متصلاً بهم، عاملاً في هيئة مجتمعهم. هذا ما ينشأ عن مجرد
حفظ اللغة، فإذا أدرك من تلك اللغة فصاحة ورونقاً، ورأى تلك الآداب والعوائد والمعارف قائمة على أساس الحكمة، واستحسان العقل الصحيح، ترقى فوق ذلك إلى مكان التقرب منهم بفؤاده، والتحم معهم بجامع التحابب التحام الأنامل بالراحة.
وربما ينتقل الإنسان إلى بلد لا يعرف لغة أهلها، فيوقعه سوء التفاهم مع أولي القوة منها في خطر لا يجد للخلاص منه طريقاً.
روي أن زيد بن عبد الله بن دارم الحجازي دخل على ملك حِمير في مدينة ظفار، وهو جالس على مكان مرتفع، فقال له الملك: ثِبْ؛ أي: اجلس، في لسان حمير، ومعناها في لسان أهل الحجاز: اقفز، ففهمها الأعرابي على مقتضى لغته، وقفز، فتكسر، واندقت رجلاه، فسأل الملك عنه، فأخبر بلغة أهل الحجاز، فقال: ليس عندنا عربيت (1)، من دخل ظفار، حمر، وفي رواية: أما علم أن من دخل ظفار حمر؛ أي: تعلم اللغة الحميرية. ولا نفهم من هذا أن استحسان تعلم الوارد على البلد لغة أهلها يختص بالضعيف الذي لا يستطيع الدفاع عن حقوقه، بل إذا كانت القوة والسلطة للوافد عليهم، تأكد في حقه أيضاً بموجب فضيلة العدل أن يتعلم من لغة المحكومين؛ لئلا يفضي به سوء التفاهم معهم إلى خطيئة ظلمهم، والقضاء عليهم، بغير ما يستحقون.
والتوافق في اللغة مما يزيد العلائق التي تؤلف الناس في نظم الاتحاد قوة ووثوقاً، ولهذا ترى الداعي إلى الوحدة الوطنية يسعى في تعليم لغة الوطن، وتعميم نشرها؛ حتى تكون هي اللغة الجارية في خطاباتهم وتحريراتهم على
(1) أراد: عربية، لكنه وقف على هاء التأنيث بالتاء، وكذلك لغتهم.