المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موضوع علم النحو - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(10)«دِرَاسَاتٌ فِي العَربيَّةِ وَتَاريخِهَا»

- ‌المقدمة

- ‌القياس في اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية

- ‌ اللغة:

- ‌ أصل نشأة اللغة:

- ‌ تأثير الفكر في اللغة:

- ‌ تأثير اللغة في الفكر:

- ‌ هل يمكن اتحاد البشر في لغة

- ‌ اللغة العربية لا تموت:

- ‌ اللغة في عهد الجاهلية:

- ‌ تأثير الإسلام في اللغة:

- ‌ فضل اللغة العربية:

- ‌ الحاجة إلى مجمع لغوي:

- ‌تمهيد

- ‌ الحاجة إلى القياس في اللغة:

- ‌ أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات

- ‌ القياس الأصلي:

- ‌ الحديث الشريف:

- ‌ القياس على الشاذ:

- ‌ القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر:

- ‌ سبب اختلافهم في القياس:

- ‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها:

- ‌ الاشتقاق من أسماء الأعيان:

- ‌ ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق

- ‌ قياس التمثيل:

- ‌ قياس الشبه وقياس العلة:

- ‌ أقسام علة القياس:

- ‌ أقسام قياس العلة:

- ‌ شرط صحة قياس التمثيل:

- ‌ مباحث مشتركة بين القياس الأصلي، والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال:

- ‌ القياس في الترتيب:

- ‌ القياس في الفصل:

- ‌ القياس في الحذف:

- ‌ القياس في مواقع الإعراب:

- ‌ القياس في العوامل:

- ‌ القياس في شرط العمل:

- ‌ القياس في الأعلام:

- ‌ الكلمات غير القاموسية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌دلالة الألفاظ

- ‌ تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية:

- ‌ أطوار اللغة العربية:

- ‌ فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها:

- ‌ حكمة تراكيبها:

- ‌ تعدد وجه دلالتها:

- ‌ تعدد أساليبها:

- ‌ طرق إختصارها:

- ‌ اتساع وضعها:

- ‌ إبداع العرب في التشبيه:

- ‌ اقتباسهم من غير لغتهم:

- ‌ ارتقاء اللغة مع المدنية:

- ‌ اتحاد لغة العامة والعربية:

- ‌ حياة اللغة العربية:

- ‌الاستشهاد بالحديث في اللغة

- ‌ ما المراد من الحديث

- ‌ هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب

- ‌ الخلاف في الاحتجاج بالحديث:

- ‌ وجهة نظر المانعين:

- ‌ وجهة نظر المجوزين:

- ‌ مناقشتهم لأدلة المانعين:

- ‌ تفضيل وترجيح:

- ‌موضوع علم النحو

- ‌ وجهات البحث النحوي:

- ‌التضمين

- ‌تيسير وضع مصطلحات الألوان

- ‌ أسماء الألوان

- ‌ القابل للتصريف من أسماء الألوان الساذجة:

- ‌ أسماء الألوان الساذجة غير القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء هيئات الأشياء المركبة من ألوان:

- ‌ أسماء الألوان المركبة القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء الألوان المركبة غير قابلة التصريف:

- ‌ الأسماء المراعى في معانيها لون:

- ‌ أسماء إيجاد الألوان:

- ‌حول تبيسيط قواعد النحو والصرف والرّد عليها

- ‌ باب الإعراب:

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ الجملة:

- ‌ تسمية الجزأين الأساسيين:

- ‌ أحكام إعرابهما:

- ‌ الترتيب بين الموضوع والمحمول:

- ‌ المطابقة بين الموضوع والمحمول:

- ‌ متعلق الظرف وحروف الإضافة:

- ‌ الضمير:

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

- ‌ ملاحظات الإمام على الاقتراحات:

- ‌ الاقتراحات

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ تسمية الجزأيين الأساسيين للجملة:

- ‌ أحكام إعرابها:

- ‌ المطابقة بين المحمول والموضوع:

- ‌ متعلق الظروف وحرف الإضافة:

- ‌ الضمير

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

الفصل: ‌موضوع علم النحو

‌موضوع علم النحو

(1)

اطلعت على كتاب "إحياء النحو" لأحد أساتذة الجامعة المصرية، فبدا لي أن أشاركه في بعض بحوثه التي رأى أن النحاة قد غفلوا عن وجه الصواب فيها، وهو: موضوع علم النحو، وإذا نقدت بعض عبارات المؤلف، وعرضت رأياً غير رأيه، فإنما أريد طرح البحث بين أيدي القراء؛ لينظروا ماذا يرون.

قال المؤلف في (ص 1): "يقول النحاة في تحديد علم النحو: إنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء"، ثم قال:"فيقصرون بحثه على الحرف الأخير من الكلمة، بل على خاصة من خواصه، وهي الإعراب والبناء"، وقال:"غاية النحو - أي عند النحويين - بيان الإعراب، وتفصيل أحكامه، حتى سماه بعضهم: علم الإعراب"، وقال:"وفي هذا التحديد تضييق شديد لدائرة البحث النحوي، وتقصير لمداه، وحصر له في جزء يسير مما ينبغي أن يتناوله".

لا ندري ماذا صنع المؤلف عندما وقف على هذا التعريف الذي ساقه لعلم النحو، هل تجاوزه الى مطالعة ما كتبه أهل العلم في شرحه، أو أنه اقتصر

(1) نقد لكتاب "إحياء النحو" لمؤلفه الأستاذ إبراهيم مصطفى - مجلة "الهداية الإسلامية" الجزءان السابع والثامن الصادران في المحرم وصفر 1357 هـ - مارس وإبريل 1938 م - القاهرة.

ص: 185

على قراءته وحده، وكتب هذا الذي يقوله في الإنكار على علماء النحو، فإن كان قد اطلع على ما كتبه أولئك المحققون في شرحه، كان حقاً عليه أن يكف قلمه عن هذا الإنكار جملة، أو يترك -على الأقل - نسبته إلى النجاة في تلك العبارة الظاهرة في أن هذا هو التعريف الذي يقولونه على اتفاق منهم.

وإن لم يكن المؤلف قد اطلع عل ما كتبوه في شرح هذا التعريف، وهو في المؤلفات القريبة المنال، أفلا يكون لقارئ كتابه حق في عتبه عتباً جميلاً على عدم صرف شيء من وقته في الرجوع إلى أمثال هذه المؤلفات قبل أن يتعرض لتخطئة علماء قضوا في استنباط قواعد العربية والتفقه في أسرارها وقتاً طويلاً؟! والتحديد الذي ساقه الأستاذ، وغمره بالإنكار، قد اقتصر فيه صاحبه على أحوال الكلم مراعياً الغالب في مباحث علم النحو. قال العلامة الأمير في شرح هذا التعريف: "هو اقتصار على غالب، وإلا فيعرف به - أي النحو- أحوال غير الكلمات؛ كالجمل التي لا محل لها من الإعراب، والتي لها محل، وكأحكام جملة الصلة من حيث العائد، وكونها لا تكون جملة إنشائية، وكذا جملة النعت والخبر.

واقتصر في هذا التعريف على حال الإعراب والبناء، مع أن النحو يبحث فيه عن أحوال غير هذا الحال مراعاة للغالب أيضاً".

قال العلامة الأمير: "وقولهم: إعراباً وبناء اقتصار على غالب، وإلا فيعرف به أحوال الكلم من غير أحوال الإعراب والبناء، كـ "إنَّ" من جهة كسر همزها أو فتحها، أو تخفيفها، أو شروط عملها، وشروط عمل بقية النواسخ، وكالعائد من حيث حذفه وعدمه، وغير ذلك".

وصرح بعد هذا كئير من النحاة بأن علم النحو يبحث عن أحوال الألفاظ

ص: 186

من حيث دلالتها على المعاني التركيبية؛ أي: المعاني التي تستفاد من إسناد بعض الكلم إلى بعض، وهذا أبو إسحاق الشاطبي يقول في "شرح الخلاصة":

"وهو - أي النحو - في الاصلاح: علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، ويعني بالأحوال: وضع الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية؛ أي: المعاني التي تستفاد بالأشكال ما يعرض في آخر طرفي اللفظ ووسطه من الآثار والتغييرات التي تدل بها ألفاظ العرب على المعاني"، فانظر إلى قوله "علم بالأحوال والأشكال"، وإلى تفسيره الأحوال بأنها وضع الألفاظ بعضها مع بعض، فذلك صريح بأن النحاة لا يقصرون بحثهم على الإعراب والبناء.

وهذا السيد الجرجاني قد ذكر في "شرح المفتاح" علوم الأدب التي تبحث عن المركبات، فقال:"وأما عن المركبات على الإطلاق، فأما باعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، فعلم النحو، وأما باعتبار إفادتها لمعان مغايرة لأصل المعنى، فعلم المعاني".

فانظر كيف جعل موضوع علم النحو: المركبات باعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، ولم يقل: يبحث عن الكلم باعتبار ما يعرض لها من الإعراب والبناء.

وكذلك ترى ابن سيده اللغوي قد تناول النحو بشرح يجعل موضوعه أوسع من أحوال الإعراب والبناء، فقال:"النحو أخذ من قولهم: انتحاه: إذا قصده. إنما هو انتحاء سمتِ كلام العرب من إعراب وغيره؛ كالتثنية والجمع والتصغير والتكسير والإضافة والنسب؛ ليلحق به من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها".

ص: 187

وكذلك يقول ابن كمال باشا في رسالة تعرض فيها للتفرقة بين موضوع علم النحو وعلم المعاني: "ويشارك النحوي صاحب المعاني في البحث عن المركبات، إلا أن النحوي يبحث عنها من جهة هيئتها التركيبية صحة وفساداً، ودلالة تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من جهة حسن النظم المعبر عنه بالفصاحة في التركيب، وقبحه"، وقال:"فما يبحث عنه في علم النحو من جهة الصحة والفساد، يبحث عنه في علم المعاني من جهة الحسن والقبح، وهذا معنى كون علم المعاني تمام علم النحو". وهذا صريح في أن بحث علم النحو لا يقف به النحويون عند حد الإعراب والبناء، ولا يجعلونه دائراً على هذا الحال كما يدعي صاحب كتاب "إحياء النحو".

وإذا رجعنا إلى الكاتبين في حقائق العلوم وموضوعاتها، وجدناهم لا يفهمون إلا أن النحاة يبحثون عن أحوال الكلم من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، فصاحب "كشاف اصطلاحات الفنون" يقول:

"علم النحو، ويسمى: علم الاعراب - على ما في شرح اللب - وهو: علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقماً"، ثم قال:"والغرض منه: الاحتراز عن الخطأ في التأليف، والاقتدار على فهمه، والإفهام به"، ومعنى هذا: أن النحو قوانين يعرف بها أحوال التركيب؛ من نحو: الترتيب والذكر والحذف والإعراب والبناء.

وسلك صاحب "مدينة العلوم" هذا المسلك، فعرف النحو: بأنه علم باحث عن أحوال المركبات من حيث دلالتها على المعاني التركيبية النسبية، وقال: "وغايته: الاحتراز عن الخطأ في تطبيق التراكيب العربية على المعاني

ص: 188

الوضعية الأصلية"، ولو كان موضوع علم النحو عندهم محصوراً في حال الإعراب والبناء، لما كان علم النحو كافياً في تطبيق التراكيب العربية على المعاني الوضعية الأصلية.

وهؤلاء البيانيون يعدون فيما يخل بفصاحة الكلام التعقيد اللفظي، ويذكرون أن التعقيد يحصل بأحد أمرين:

أولهما: ضعف التأليف، وهو أن يكون الكلام مخالفاً لقوانين علم النحو؛ كالفصل بين المبتدأ والخبر، أو النعت والمنعوت، بأجنبي.

ثانيهما: اجتماع أمور كل واحد منها جائز، ولكنه خلاف الأصل؛ كتقديم المفعول على الفاعل، والمستثنى على المستثنى منه، والخبر على المبتدأ، ويقولون بعد هذا: إن كلاً من الأمرين - أعني: ضعف التأليف، ومخالفة الأصل - يعرف بعلم النحو.

ولا يصح لنا أن نتهم هؤلاء البيانيين بأنهم لم يكونوا على بينة من علم النحو، أو أنهم أحالوا عليه أشياء لا تحتوي عليها كتبه.

ثم قال المؤلف في (ص 1)"فإن النحو - كما نرى، وكما يجب أن يكون - هو قانون تأليف الكلام، وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى تتسق العبارة، ويمكن أن تؤدي معناها".

حقق النحاة النظر في علم النحو، وعرفوه كما يجب أن يكون، وقالوا: إنه يبحث عن أحوال التركيب، ويبين ما تكون عليه الكلمة في الجملة، والجملة مع الجمل، حتى يكون الكلام مطابقاً للمعاني الوضعية الأصلية.

وقال المؤلف في (ص 2): "فالنحاة حين قصروا النحو على أواخر الكلمات، وعلى تعرف أحكامها، قد ضيقوا من حدوده الواسعة، وسلكوا

ص: 189

به طريقاً منحرفة إلى غاية قاصرة، وضيعوا كثيراً من أحكام نظم الكلام، وأسرار تأليف العبارة".

لم يقصر النحاة النحو على أواخر الكلمات وتعرفِ أحكامها، بل بحثوا في أحكام تأليف الكلام؛ من نحو: التقديم والتأخير، والذكر والحذف، واتصال بعض الكلم ببعض، وانفصاله منه، ولا يكاد باب من أبواب النحو يخلو من البحث في التراكيب من هذه الناحية، ولعل الدارس لعلم النحو في كتبه المبسوطة، يخرج منها وهو على ثقة من أنهم قد أعطوا ناحية تأليف الكلام حقها، فلا يعرض له أسلوب من الكلام إلا نقده بما استفاده من تلك الكتب، ويقضي بانطباقه على الأسلوب العربي، أو انحرافه عنه.

قال المؤلف في (ص 3): "فطرق الإثبات والنفي، والتأكيد والتوقيت، والتقديم والتأخير، وغيرها من صور الكلام قد مروا بها من غير درس، إلا ما كان ماساً بالإعراب، أو متصلاً بأحكامه، وفاتهم لذلك كثير من فقه العربية، وتقدير أساليبها".

إذا ألقينا نظرة على علم النحو، وجدناه يبحث عن أحوال الجمل والمفردات من حيث وقوعها في التراكيب، أو عن الأحوال التي يكون بها التركيب مطابقاً للمعاني الوضعية الأصلية، أما الجمل، فنحو الجملة التي تقع خبراً، أو حالاً، أو صفة، أو معطوفة، أو شرطاً، أو جزاء، أو جواب قسم، أو مضافا إليه، أو مفعولاً ثانياً لنحو: علمت وظننت، ولم يقصر النحاة بحثهم في هذه الجمل على جهة الإعراب، بل بحثوا عن أحكامها من جهات أخرى؛ ككونها خبرية أو إنشائية اسمية أو فعلية، مقيدة بنوع خاص من الألفاظ أو مطلقة، كما بحثوا عنها من جهة موقعها في نظم الكلام، أو من جهة ما تتصل

ص: 190

به من الألفاظ أو من جهة وجوب الحذف وامتناعه أو جوازه.

فيقولون لك - مثلاً -: إن جملة الخبر أو الوصف أو الصلة لا تكون إنشائية، وإن جملة الجزاء لا تتقدم على الشرط، وجملة الصلة لا تتقدم على الموصول، ويحدثونك عن حكم عطف الجملة الإسمية على الفعلية، وعطف الإنشائية على الخبرية، ويقولون لك: إن جملة الجزاء إذا كانت إسمية أو إنشائية، وجب قرنها بالفاء، ويدلونك على مواضع حذف جملة الشرط أو الجزاء أو جواب القسم.

وأما المفردات، فيبحثون عن المفرد الذي يقع مبتدأً أو خبراً، أو فاعلاً، أو مفعولاً، أو حالاً، أو تمييزاً، أو مضافاً إليه أو مجروراً بحرف، ولا يقصرون بحثهم فيه على جهة الإعراب، بل يبحثون عن حال المبتدأ والحال والتابع - مثلاً - من جهة التنكير والتعريف، وعن الخبر والفاعل والمفعول والحال والتمييز والتابع من جهة التقديم والتأخير، وعن هذه الأنواع وغيرها من جهة الحذف والذكر، ويبحثون عن نوع الكلم التي يتصل بها كل من الحروف الرابطة بين الكلم، فيقولون لك - مثلاً -: إن حروف القسم، وكاف التشبيه، ومذ ومنذ لا تدخل على الضمائر، وإن "ربَّ" مختصة بالنكرات، وإن حيث وإذ لا يضافان إلا إلى جمل الأفعال، وتراهم يبسطون القول في حكم المضارع الذي يقع خبراً لكاد وعسى وأخواتها من جهة اتصاله بأَنْ.

قال المؤلف في (ص 3): "نعم، ربما تعرضوا لشيء من هذه الأحكام حين يضطرون إليها لبيان الإعراب وتكميل أحكامه، فقد تكلموا في وجوب الصدارة لأسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي، حين أرادوا شرح التعليق، وبيان مواضعه، ولزمهم أن يحصوا من الأدوات ما يحجب ما قبله عن

ص: 191

العمل فيما بعدمه".

والمعروف أن النحاة يتكلمون عما تجب له الصدارة في أبواب غير بحث التعليق، فيقولون في باب المبتدأ والخبر: يجب تقديم المبتدأ إذا كان مشتملاً على ماله الصدر، ويجب تقديم الخبر إذا كان متضمناً ماله الصدر (1)، ويذكر بعضهم في هذا الباب بعض ماله الصدارة؛ من نحو: الشرط والعرض والتمني (2)، ويقولون في باب الجوازم: إن الشرط له الصدارة (3)، ويقولون في باب كم وكأين: إن كم الخبرية والاستفهامية يلزمان الصدارة.

وقال ابن حاجب في فصل عقده لحروف التحضيض: حروف التحضيض: هلا، وألا، ولولا، ولوما، لها صدر الكلام.

قال المؤلف: "وبينوا بعض الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم، حين أرادوا تفصيل أحكام الاشتغال". المعروف أن النحاة يتكلمون عن الأدوات من جهة ما تتصل به من فعل أو اسم؛ في مواضع غير باب الاشتغال، فقد قالوا في بحث حروف التحضيض هلا وألا ولولا ولوما إنها تلزم الفعل لفظاً أو تقديراً، وقالوا في بحث حروف الاستفهام: إن الهمزة وهل تدخلان على الجملة الاسمية والفعلية (4)، وقالوا في بحث لو: إنها تختص بالفعل كإن الشرطية (5).

(1)"الكافية" لابن الحاجب.

(2)

الرضي في "شرح الكافية".

(3)

"الصبان على الاشموني".

(4)

"شرح الرضي للكافية".

(5)

"الخلاصة وشروحها".

ص: 192

وقال المؤلف: "ولكن هذه المباحث جاءت متفرقة على الأبواب، تابعة لغيرها، فلم يُستوف درسها، ولا أُحيطَ بأحكامها".

قال لنا المؤلف: إن النحاة ذكروا ما يجب له الصدارة من أسماء الاستفهام وبعض أدوات النفي في بحث التعليق، وذكروا الأدوات التي يجب أن يليها فعل، والتي لا يليها إلا اسم في باب الاشتغال، واستخرج من هذا نتيجة، هي: أنهم لم يستوفوا درس هذه المباحث، ولا أحاطوا بأحكامها، وقد عرفت أنهم تكلموا عنها في غير بحث التعليق وباب الاشتغال، وكان على الأستاذ أن يذكر لنا شيئاً من الوجوه التي فاتتهم دراستها، أو شيئاً من الأحكام التي ظفر بها من الكلام العربي، ولم يتعرضوا له، ولو فعل شيئاً من هذا، لكان قوله:"فلم يستوف درسها، ولا أحيط بأحكامها" نتيجة يعترف المنطق الصحيح بصدقها.

ثم تكلم الأستاذ على النفي من جهة أنه كثير الدوران في كلام العرب، مختلف الأساليب، متعدد الأدوات، وذكر أن النحاة درسوه مفرقاً على أبواب الإعراب، ممزقاً، وأخذ يتحدث عن هذه الأدوات التي هي: ليس، وما، وإن، ولا، وغير، وإلا، ولم، ولن، ولما. فلم يرض عن أن تدرس "لا" فيما ألحق بكان، ثم فيما ألحق بأنَّ، ولا أن تدرس "غير، وإلا، وليس" في باب الاستثناء، ولا أن تدرس "لن" في نواصب الفعل، "ولم، ولما" في جوازمه، ثم قال: "درست هذه الأدوات - كما ترى - مفرقة، ووجهت العناية كلها إلى بيان ما تحدث من أثر في الإعراب، وأغفل شر إغفال درس معانيها، وخاصة كل أداة في النفي، وفرق ما بينها وبين غيرها في الاستعمال، ولو أنها جمعت في باب، وقرنت أساليبها، ثم ووزن بينها، وبين منها ما ينفى الحال،

ص: 193

وما ينفي الاستقبال، وما ينفى الماضي، وما يكون نفيا لمفرد، وما يكون نفياً لجملة، وما يخص الاسم، وما يخص الفعل، وما يتكرر، لأحطنا بأحكام النفي، وفقهنا أساليبها، ولظهر لنا من خصائص العربية ودقتها في الأداء شيء كثير أغفله النحاة، وكان علينا ان نتبعه ونبينه".

شأن علم النحو البحث عن أحوال ألفاظ من حيث دخولها في التركيب؛ مثل: تقديم اللفظ أو تاخيره، واتصاله أو انفصاله، وحذفه أو إثباته، وزيادته أو إفادته لمعنى، وإعرابه أو بنائه، وعمله في غيره أو إهماله عن العمل، فإذا درس النحاة حروف النفي في أبواب متفرقة، فذلك ما يناسب موضوع علمهم، إذ يذكرون الألفاظ في مقام البحث عن حال يعرض للفظ عند وقوعه في تركيب، وليس هناك حال يعرض لأدوات النفي عند التركيب، ويكون جارياً في جميع هذه الأدوات، وإنما نجد من الأحوال التي تعرض عند التركيب ما يتناول بعض أدوات النفي وغيرها من الكلم؛ كرفع الاسم ونصب الخبر يعرض لفعل نفي، وهو ليس، وأحرف نفي، وهي: ما، وإن، ولا، ولبعض أفعال الإثبات، وهي: كان وبقية أخواتها.

ولا شك أن هذه الوجوه التي تشترك فيها حروف النفي مع غيرها هي أشد صلة بعلم النحو من مجرد الاشتراك في أصل المعنى الذي وضع له اللفظ.

والواقع أن البحث عن معاني الحروف والأدوات لا يدخل في صلب علم النحو؛ إذ لم يكن بحثاً عن أحوال اللفظ من جهة وقوعه في التركيب، بل هو بحث عن المعاني التي وضعت لها هذه الكلم -؛ أعني: الحروف -، فهو إلى علم اللغة أقرب منه إلى علم النحو، ولكن النحويين لاحظوا أن هذه

ص: 194

الحروف روابط للتراكيب، فتعرضوا لمعانيها عند البحث عن الحال الذي يعرض لها عند التركيب؛ كالعمل أو الإعراب أو البناء أو الزيادة.

قال المؤلف: "ومثل النفي في ذلك التوكيد، يدرسونه في "باب: إن"، ويقرنون بأن المؤكدة "أن" الواصلة، و"ليت" المتمنية؛ لأنها أدوات تتماثل في العمل، وإن تباعد ما بينها في المعنى والغرض، وفي باب الفعل يذكرون نوني التوكيد وأحكامهما؛ لأثرهما في إعرابه، وفي بحث التوابع يجعلون للتوكيد باباً خاصاً يذكرون فيه عدداً من الكلمات حكمها في الإعراب حكم ما قبلها، ولو جمعت أساليب التوكيد في العربية، ما ذكر هنا، وما لم يذكر، وبين ما يكون تنبيهاً للسامع، وما يكون توكيداً للخبر، وما يكون تقوية لرغبة، لكان أقرب إلى أن تدرس كل أنواع التوكيد، ويبين لكل نوع موضعه، ولكان أدنى إلى توضيح أساليب العربية وسرها في التعبير".

فعل النحويون في التوكيد وأدواته ما يناسب صناعتهم، قرنوا إن بأن الواصلة، وليت المتمنية؛ لاشتراك الأحرف الثلاثة في حال يعرض لها بالتركيب، وهو نصب الاسم ورفع الخبر، وأوردوا الكلمات التي تستعمل للتوكيد؛ مثل: كل، وأجمع في بحث التوابع؛ لمماثلتها للتوابع في حكم ما يعرض لها بالتركيب، وهو موافقة ما قبلها في الإعراب، وذكروا نوني التوكيد في بحث الفعل حيث كان لهما عند الاتصال بالفعل أحكام خاصة لا يشاركهما فيها غيرهما من أدوات التوكيد، وهو إعراب الفعل الذي يتصلان به أو بناؤه على الوجه المعروف في ذلك البحث.

ولو سلك النحاة في ألفاظ التوكيد هذا الطريق الذي أشار به المؤلف، فجمعوها في باب، لم يكن من اللائق بصناعتهم أن يقتصروا على بيان معانيها

ص: 195

الذي هو في الواقع من موضوع علم اللغة، ولو تعرضوا في كل لفظ إلى الحكم الذي يعرض له في التراكيب؛ كأن يذكروا عمل "إن" في الاسم والخبر في البحث عن حروف التوكيد، ويذكروا عمل "ليت" كذلك في حروف التمني، وعمل "كأن" في بحث حروف التشبيه، وعمل "لكن" في بحث الاستدراك، لتشتت الكلام في الأحوال التي يعد البحث فيها من صلب علم النحو، وهي رفع: الاسم والخبر، وما يعرض لهما من نحو الترتيب والذكر والحذف.

ثم قال المؤلف: "والزمن جعله النحاة ثلاثة أنواع: الماضي، والحال، والمستقبل، وجعلوا للدلالة عليها صيغتين فقط: الفعل الماضي، والفعل المضارع، وكفاهم ذلك؛ لأن أحكام الإعراب لا تكلفهم أكثر منه، ولم يحيطوا بشيء من أنواع الزمن، وأساليب الدلالة عليه، وهي في العربية أوسع وأدق، يدل على الزمن بالفعل وبالاسم، وبالفعل والفعل، وبالفعل والاسم وبالحرف، ولكل اسلوب من هذه جزء من الزمن محدود يدل عليه".

ثم قال المؤلف: "وليس لهذه الأبحاث من موضع يجب أن تفصل فيه وتبين أحكامها إلا علم النحو".

قد عرفت أن علم النحو أحد العلوم العربية، لا أنه كل العلوم العربية؛ فإن علماء العربية يقسمون البحث في اللغة إلى علوم، فيقولون: البحث فيها إما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهيئتها، فعلم اللغة، أو من حيث صورها وهيئتها فقط، فعلم الصرف، أو من حيث انتساب بعضها ببعض بالأصالة والفرعية، فعلم الاشتقاق، وأما عن المركبات فباعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، فعلم النحو، وأما باعتبار تأديتها لمعان مغايرة لأصل المعنى، فعلم المعاني، وأما باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب

ص: 196

الوضوح، فعلم البيان (1).

فهناك نحو، ولغة، وصرف، ومعان، وبيان، ولكل علم من هذه العلوم حد لا يتعداه، وعلم النحو من بينها إنما يبحث عن الألفاظ باعتبار هيئتها التركيبية، وتأديتها لمعانيها الأصلية، فنظره يتوجه إلى الأحوال التي تعرض للألفاظ عند تأليفها، وهذا لا يستدعي أن تجمع الكلمات المشتركة في الدلالة على معنى وضعت له، في بحث، إلا أن تشترك بعد ذلك في وجه من الوجوه التي يتناولها موضوع علم النحو، وهي الأحوال التي تعرض للألفاظ من حيث التركيب، وتأدية المعاني الأصلية.

ثم أعاد الأستاذ دعوى أن النحاة قصروا النحو على البحث في أواخر الكلم، وقال:"قد أخطؤوا إلى العربية من وجهين"، وقال:"الأول -؛ أي: من الوجهين - أنهم حين حددوا النحو، وضيقوا بحثه، حرموا أنفسهم وحرمونا إذ اتبعناهم، من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، ومقدرتها في التعبير، فبقيت هذه الأسرار مجهولة، ولم نزل نقرأ العربية ونحفظها ونرويها، ونزعم أننا نفهمها، ونحيط بما فيها من إشارة، وما لأساليبها من دلالة، والحق أنه يخفى علينا كثير من فقه أساليبها، ومن دقائق التصوير بها".

قد أريناك أن النحاة لم يقصروا النحو على البحث في أواخر الكلم، وأنهم بحثوا في أحوال التأليف من كل ناحية تدخل في موضوع علمهم، ولا يسلم للمؤلف أنهم حرموا أنفسهم، وحرموا من اتبعهم، من الاطلاع على كثير من أسرار العربية وأساليبها المتنوعة، وإليك التحقيق:

(1)"شرح السيد للمفتاح".

ص: 197

للنظر في أسلوب الكلام العربي جهتان:

أولاهما: جهة صحة تأليف الكلام بحيث لا يعد صاحبه خارجاً عن العربية، محكوماً عليه باللحن، وبعبارة أخرى: يكون الكلام مطابقاً لأحد الأساليب التي يؤدي بها العرب المعنى الأصلي بليغاً أو غير بليغ، وهذه الجهة هي التي يبحث عنها النحاة.

الثانية: جهة أخذ الكلام مرتبة من المراتب الزائدة على صحة التاليف عربية؛ أعني: مراتب حسن البيان، وهذه الجهة هي التي يبحث عنها علماء البلاغة.

وإذا درسنا كتب النحاة، وكتب البيان بإنصاف، وجدنا كلاً من الطائفتين قد قطعوا في البحث عن فقه الأساليب ودقائق التصوير بها أشواطاً واسعة، وبلغوا فيها إلى غايات بعيدة، فدعوى أنهم حرموا أنفسهم، أو حرموا أتباعهم من الاطلاع على كثير من أسرار العربية، مبنية على أن النحاة قد ضيقوا بحث علم النحو، وقد أريناك أنهم لم يضيقوه، ولكنهم لم يريدوا أن يتعدوا حدوده إلى موضوعات يبحث عنها في علوم أخرى؛ كعلم اللغة وفقهها، أو علوم البلاغة.

وأشار الأستاذ إلى الوجه الثاني من الوجوه التي أخطأ فيها النحاة إلى العربية من أجل قصرهم النحو على البحث في أواخر الكلم، فقال: "الثاني: أنهم رسموا للنحو طريقة لفظية، فاهتموا ببيان الأحوال المختلفة للفظ؛ من رفع أو نصب، من غير فطنة لما يتبع هذه الأوجه من أثر في المعنى. يجيزون في الكلام وجهين أو أكثر من أوجه الإعراب، ولا يشيرون إلى ما يتبع كل وجه من أثر في رسم المعنى وتصويره. وبهذا يشتد جدلهم، ويطول احتجاجهم،

ص: 198