المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مناقشتهم لأدلة المانعين: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(10)«دِرَاسَاتٌ فِي العَربيَّةِ وَتَاريخِهَا»

- ‌المقدمة

- ‌القياس في اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية

- ‌ اللغة:

- ‌ أصل نشأة اللغة:

- ‌ تأثير الفكر في اللغة:

- ‌ تأثير اللغة في الفكر:

- ‌ هل يمكن اتحاد البشر في لغة

- ‌ اللغة العربية لا تموت:

- ‌ اللغة في عهد الجاهلية:

- ‌ تأثير الإسلام في اللغة:

- ‌ فضل اللغة العربية:

- ‌ الحاجة إلى مجمع لغوي:

- ‌تمهيد

- ‌ الحاجة إلى القياس في اللغة:

- ‌ أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات

- ‌ القياس الأصلي:

- ‌ الحديث الشريف:

- ‌ القياس على الشاذ:

- ‌ القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر:

- ‌ سبب اختلافهم في القياس:

- ‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها:

- ‌ الاشتقاق من أسماء الأعيان:

- ‌ ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق

- ‌ قياس التمثيل:

- ‌ قياس الشبه وقياس العلة:

- ‌ أقسام علة القياس:

- ‌ أقسام قياس العلة:

- ‌ شرط صحة قياس التمثيل:

- ‌ مباحث مشتركة بين القياس الأصلي، والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال:

- ‌ القياس في الترتيب:

- ‌ القياس في الفصل:

- ‌ القياس في الحذف:

- ‌ القياس في مواقع الإعراب:

- ‌ القياس في العوامل:

- ‌ القياس في شرط العمل:

- ‌ القياس في الأعلام:

- ‌ الكلمات غير القاموسية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌دلالة الألفاظ

- ‌ تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية:

- ‌ أطوار اللغة العربية:

- ‌ فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها:

- ‌ حكمة تراكيبها:

- ‌ تعدد وجه دلالتها:

- ‌ تعدد أساليبها:

- ‌ طرق إختصارها:

- ‌ اتساع وضعها:

- ‌ إبداع العرب في التشبيه:

- ‌ اقتباسهم من غير لغتهم:

- ‌ ارتقاء اللغة مع المدنية:

- ‌ اتحاد لغة العامة والعربية:

- ‌ حياة اللغة العربية:

- ‌الاستشهاد بالحديث في اللغة

- ‌ ما المراد من الحديث

- ‌ هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب

- ‌ الخلاف في الاحتجاج بالحديث:

- ‌ وجهة نظر المانعين:

- ‌ وجهة نظر المجوزين:

- ‌ مناقشتهم لأدلة المانعين:

- ‌ تفضيل وترجيح:

- ‌موضوع علم النحو

- ‌ وجهات البحث النحوي:

- ‌التضمين

- ‌تيسير وضع مصطلحات الألوان

- ‌ أسماء الألوان

- ‌ القابل للتصريف من أسماء الألوان الساذجة:

- ‌ أسماء الألوان الساذجة غير القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء هيئات الأشياء المركبة من ألوان:

- ‌ أسماء الألوان المركبة القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء الألوان المركبة غير قابلة التصريف:

- ‌ الأسماء المراعى في معانيها لون:

- ‌ أسماء إيجاد الألوان:

- ‌حول تبيسيط قواعد النحو والصرف والرّد عليها

- ‌ باب الإعراب:

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ الجملة:

- ‌ تسمية الجزأين الأساسيين:

- ‌ أحكام إعرابهما:

- ‌ الترتيب بين الموضوع والمحمول:

- ‌ المطابقة بين الموضوع والمحمول:

- ‌ متعلق الظرف وحروف الإضافة:

- ‌ الضمير:

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

- ‌ ملاحظات الإمام على الاقتراحات:

- ‌ الاقتراحات

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ تسمية الجزأيين الأساسيين للجملة:

- ‌ أحكام إعرابها:

- ‌ المطابقة بين المحمول والموضوع:

- ‌ متعلق الظروف وحرف الإضافة:

- ‌ الضمير

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

الفصل: ‌ مناقشتهم لأدلة المانعين:

يكتفون بالنقل عن واحد، ولا يعرف حاله".

وقد عرفت أن المانعين من الاحتجاج بالحديث معترفون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأبرعهم بياناً، ولا ينازعون في أن أسانيد الأحاديث أقوى من أسانيد الأشعار، وإنما استندوا في المنع إلى أن الأحاديث قد تروى بالمعنى، بخلاف شعر العرب، أو منثورهم؛ فإن رواته اعتنوا بألفاظه؛ لأن الغرض من روايته تقرير أحكام الألفاظ.

قال ابن ضائع في "شرح الجمل": "لولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث، لكان أولى وأثبت في إثبات فصيح اللغة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وأظهر وجه يورده المجيزون: أن الأصل رواية الحديث الشريف على نحو ما سمع، وأن أهل العلم قد شددوا في ضبط ألفاظه، والتحري في نقله، ولهذا الأصل تحصل غلبة الظن بأن الحديث مروي بلفظه، وهذا الظن كافٍ في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأحكام النحوية.

*‌

‌ مناقشتهم لأدلة المانعين:

يقول المانعون: إن الرواة كانوا ينقلون الأحاديث بالمعنى، فلا ثقة لنا من أن اللفظ الذي روي به الحديث هو لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأجاب المجيزون على هذا: بأن كثيراً من المحدثين والفقهاء والأصوليين قد ذهبوا إلى منع رواية الحديث بالمعنى، ومن أجازوا الرواية بالمعنى شرطوا لذلك أن يكون الراوي على علم بما يغير المعنى، أو ينقصه، وأن يكون محيطاً بمواقع الألفاظ، بل قال بعضهم: شرطه أن يحيط بدقائق علم اللغة، وأن تكون المحسنات الفائقة على ذكر منه، فيراعيها في نظم كلامه. على أن المجيزين

ص: 173

للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى، وإذا كانت الرواية بالمعنى ليست في رأيهم سوى رخصة، فإنهم لا يحتجون لها إلا في حال ضرورة، وأضافوا إلى هذا: أن النقل بالمعنى إنما أجازه من أجازه في غير ما لم يدون في الكتب، أما ما دون في الكتب، فلا يجوز التصرف فيه بوجه، وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل أن تفسد اللغة، وإذا كان قد وقع في الأحاديث المدونة نقل بالمعنى، فإنما هو تصرف ممن يصح الاحتجاج بأقوالهم.

وإليك ما قاله البدر الدماميني، وما حكاه عن شيخه ابن خلدون في الرد على من يمنعون الاستشهاد بالحديث، قال في "حواشيه على المغني":

"أسقط أبو حيان الاستدلال على الأحكام النحوية بالأحاديث النبوية باحتمال رواية من لا يوثق بعربيته إياها بالمعنى، وكثيراً ما يعترض على ابن مالك في استدلاله بها، ورده شيخنا ابن خلدون بأنها - على تسليم أنها لا تفيد القطع بالأحكام النحوية - تفيد غلبة الظن بها؛ لأن الاصل عدم التبديل، لاسيما والتشديد في ضبط ألفاظها، والتحري في نقلها بأعيانها، مما شاع بين الرواة، والقائلون منهم بجواز الرواية بالمعنى معترفون بأنها خلاف الأولى، وغلبة الظن كافية في مثل تلك الأحكام، بل في الأحكام الشرعية، فلا يؤثر فيها الاحتمال المخالف للظاهر، وبان الخلاف في جواز النقل بالمعنى في غير ما لم يدون في كتب.

أما ما دُون، فلا يجوز تبديل ألفاظه بلا خلاف؛ كما قاله ابن الصلاح (1)،

(1) قال أهل العلم بالحديث: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا، بقولك: حدثنا، ونحوه.

ص: 174

وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، وحين كان كلام أولئك - على تقدير تبديلهم - يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ يحتج به بآخر كذلك، ثم دون ذلك البدل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى، فبقي حجة في بابه صحيحة، ولا يضر توهم ذلك الاحتمال السابق في استدلالهم بالمتأخر.

وقد ناقش بعض شارحي (1) كتاب "الاقتراح" ابنَ خلدون، فقال:

إن تدوين الأحاديث وقع بعد فساد اللغة، وقال: لم يحصل التدوين إلا في عصر التابعين، ووقع يومئذ الاختلاط في اللغة، والرواية بالمعنى لم تقف عند حد من يتكلم بالعربية سليقة.

ولا يسعنا أمام دعوى ابن خلدون، ومناقشة هذا الشارح له، إلا أن نقول كلمة في تاريخ تدوين الحديث، ونتحدث عن العهد الذي وقع فيه فساد اللغة، لعلنا نهتدي إلى ما يفيدنا في أصل البحث:"بحث الاستشهاد بالحديث في اللغة".

الواقع أن أصل كتابة الحديث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وممن كان يكتب الحديث: عبدالله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان أكثر جمعأ للحديث: من أبي هريرة. أما تدوينه في كتب، فقد وقع بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101 هـ، ومن المروي في الصحيح: أنه كتب إلى أهل الآفاق: أن انظروا ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنته، فاجمعوه، أو فاكتبوه.

وأول من دون الحديث: محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124 هـ والمعروف أنه كان يروي عن الصحابة مثل: عبدالله بن عمر، وأنس بن مالك،

(1) هو: ابن علان، وتوجد نسخة من شرحه بالمكتبة التيمورية.

ص: 175

وسهل بن سعد الساعدي.

وقيل إن أول من دون الحديث: الربيع بن صبيح المتوفى سنة 160 هـ، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة 156 هـ.

ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري؛ كمالك بن أنس، وعبد الملك بن جريج، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة.

وكان كثير من رواة الحديث في هذا العهد يكتبون الأحاديث عند تلقيها، ولا يكتفون بحفظها عن ظهر القلب، فإنا نجد في تاريخ طائفة منهم: أن لهم كتباً كانوا يرجعون إليها عند الرواية.

ونجد في تاريخ من يروون عن أمثال الزهري: أن في مخلفاتهم أجزاء كثيرة تحتوي أحاديث أخذوها عن أولئك الأئمة. وكتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه، وحفظُه عن ظهر القلب يبعده من أن يدخله غلط أو تصحيف.

ويصل بنا البحث إلى أن مصنفات الطبقة التي جات بعد طبقة مالك، وابن جريج قد بلغت الغاية في جمع الأحاديث، وفي ذلك العهد صنفت مسندات كثيرة؛ كـ:"مسند أسد بن موسى الأموي" المتوفى سنة 212 هـ، و"مسند عبيدالله بن موسى العيسى" المتوفى سنة 213 هـ، و"مسند نعيم بن حماد الخزاعي" المتوفى سنة 228 هـ، و"مسند أحمد بن حنبل" المتوفى سنة 241 هـ.

وجاء بعد هؤلاء أصحاب الكتب الستة، وأولهم: البخاري المولود سنة 194 هـ، وآخرهم النسائي المولود سنة 215 هـ.

وما في الكتب الستة، أو معظمه كان مدوناً في الكتب المصنفة من قبل. ذكر الحافظ أبن حجر مصنفات أئمة الحديث في الصدر الأول، وقال:

ص: 176

فلما رأى البخاري هذه المصنفات، ورواها، وجدها بحسب الوضع جامعة، فألف كتابه مقتصراً على الصحيح.

وإذا رأينا أن البخاري يقول في كتابه: حدثنا فلان. فهذا لا يمنع من أن يكون الحديث مدوناً في كتاب؛ فإنهم كانوا - كما عرفت آنفاً - لا يستغنون بالكتابة عن الحفظ، وربما قال الراوي: أملى علينا فلان كذا وكذا حديثاً من حفظه، ثم قرأها علينا من كتابه.

وهذه النظرة التاريخية تدلنا على أن ابتداء تدوين الحديث كان في أوائل القرن الثاني، وأنه لم يمض القرن الثاني حتى قيد معظم الأحاديث بالكتابة والتدوبن.

ولننظر بعد هذا إلى حال اللغة من جهة ما دخلها من الفساد، وننظر ما يكون لهذا الفساد من أثر في رواية الحديث.

أخذ الفساد يدخل اللغة منذ وصلت الفتوح الإسلامية العرب بالعجم، وأسرع إلى ألسنة طائفتين من أبناء العرب، أو الناشئين في بيئتهم: طائفة كانت أمهاتهم من الأعاجم، وطائفة العامة الذين يسكنون الأمصار، وتكثر مخالطتهم للأعاجم.

وظهر اللحن بجلاء في أواخر عهد الدولة الأموية، وكان انقراضها سنة 132 هـ.

وبقي بجانب هاتين الطائفتين فريقان: سكان الجزيرة البعيدون عن مخالطة الأعاجم مخالطة تمس فصاحتهم بسوء، وأبناء الخاصة من سكان الأمصار الذين لم تكن أمهاتهم من الأعاجم.

أما سكان الجزيرة، فإنهم ما برحوا على فصاحة اللغة إلى أواسط القرن

ص: 177

الرابع، وأما الخاصة من سكان المدن، فبقوا على فصاحة اللهجة مدة في أوائل عهد الدولة العباسية.

وذكر الباحثون في طبقات الشعراء: أن إبراهيم بن هرمة آخر من يحتج بشعرهم، وقد توفي في خلافة الرشيد بعد الخمسين والمئة بقليل.

والذين نشؤوا في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة انتشاراً يرفع الثقة بفصاحة لهجتها، يوثق بأقوالهم، ولو تأخروا عن منتصف القرن الثاني؛ كا لإمام الشافعي؛ فإنه ولد سنة 150 هـ، ولكنه نشأ في بيئة عربية، وهي مكة، فيصح الاستشهاد بما يستعمله من الألفاظ.

قال الإمام أحمد: "كلام الشافعي حجة في اللغة"، وقال الأزهري في "إيضاح ما استشكل من مختصر المزني":"ألفاظ الإمام الشافعي عربية محضة، ومن عجمة المولدين مصونة".

وإذا عدنا إلى قول ابن خلدون: "وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، وحين كان كلام أولئك - على تقدير تبديلهم - يسوغ الاحتجاج به"، وعرضناه على التاريخ، وجدنا التدوين وقع بعد أن دخل الفساد في اللغة، ولكن من المدونين من يحتج بأقواله؛ لأنه نشأ في بيئة عربية؛ كالزهري، ومالك بن أنس، وعبد الملك بن جريج، ومنهم من نشؤوا في بيئة غير عربية، أو عربية انتشر فيها الفساد، وصارت العربية الفصحى فيها إنما تدرك من طريق التعلم.

فدعوى أن الاحاديث دونت قبل فساد اللغة، وأن كلام المدونين لها يسوغ الاحتجاج به في اللغة، غير مطابقة للتاريخ من كل وجه، ولو تمت على نحو ما قرره ابن خلدون؛ لقامت لها الحجة الفاصلة على الاستشهاد بالحديث

ص: 178

في اللغة من غير حاجة إلى شيء آخر يعضدها.

والذي نستفيده من حقائق التاريخ: أن قسماً كبيراً من الأحاديث دونه رجال يحتج بأقوالهم في العربية، وأن كثيراً من الرواة كانوا يكتبون الأحاديث عند سماعها، وذلك مما يساعد على روايتها بألفاظها، فيضاف هذا وذاك إلى ما وقع من التشديد في رواية الحديث بالمعنى، وما عرف من احتياط أئمة الحديث، وتحريهم في الرواية، فيحصل الظن الكافي لرجحان أن تكون الأحاديث المدونة في الصدر الأول مروية بألفاظها ممن يحتج بكلامه.

وأما قول المانعين: إنه وقع اللحن في كثير من الأحاديث، فيجاب عنه: بأن كثيراً مما يرى أنه لحن قد ظهر له وجه من الصحة، وقد ألف في هذا الباب ابن مالك كتابه:"التوضيح في حل مشكلات الجامع الصحيح"، وذكر للأحاديث التي يشكل إعرابها وجوهاً يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح، وكثيراً ما نرى ألفاظاً من الحديث ينكرها بعض اللغويين، فيأتي لغوي آخر فيذكر لها وجهاً مقبولاً، أو يسوق عليها شاهداً صحيحاً.

ثم إن وجود ألفاظ غير موافقة للقواعد المتفق عليها، لا يقتضي ترك الاحتجاج بالحديث جملة، وإنما يحمل أمرها على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة.

وإذا وقع في رواية بعض الأحاديث غلط، أو تصحيف، فإن الأشعار يقع فيها الغلط والتصحيف، وهي حجة من غير خلاف.

قال محمد بن سلام: وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله. وأبو أحمد العسكري الذي ألف كتاباً في تصحيف رواة الحديث، قد ألف كتاباً فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف.

ص: 179

أما قول أبى حيان: "إن المتقدمين من علماء العربية لا يحتجون بالحديث"، فأجاب عنه المجيزون: بأن علماء العربية في العهد الأول لم يتعاطوا رواية الحديث، فعلماء الحديث غير علماء العربية (1)، ثم إن دواوين الحديث لم تكن مشتهرة في ذلك العهد، ولم يتناولها علماء العربية كما كانوا يتناولون القرآن الكريم، وإنما اشتهرت دواوينه، ووصلت إلى أيدي جمهور أهل العلم من بعد، فإن سلمنا عدم احتجاجهم بالحديث، فلعدم انتشاره بينهم، لا لأنهم يمنعون الاحتجاج به. على أن كتب الأقدمين الموضوعة في اللغة لا تكاد تخلو من الاستدلال على إثبات الكلمات بألفاظ الحديث، واللغة أخت النحو كما صرحوا به.

وكذلك نرى الإمام اللغوي أبا منصور الأزهري المولود سنة 282 هـ يعتمد في كتابه "التهذيب" على الأحاديث، ويكثر من الاستشهاد بها.

وأما ما ادعاه أبو حيان من أن المتاخرين من نحاة الأقاليم تابعوا المتقدمين في عدم الاحتجاج بالحديث، فمرود بأن كتب النحاة من أندلسيين وغيرهم مملوءة بالاستشهاد بالحديث. وقد استدل بالحديث الشريف: الصقلي، والشريف الغرناطي في "شرحيهما لكتاب سيبويه"، وابن الحاج في "شرح المقرب"، وابن الخباز في "شرح ألفية ابن معطي"، وأبن علي الشلوبين في كثير من مسائله. وكذلك استشهد بالحديث: السيرافي، والصفار في "شرحيهما لكتاب سيبويه". وقال ابن الطيب: "بل رأيت الاستدلال بالحديث في كلام

(1) من علماء العربية من كانوا يعدون في رواية الحديث؛ مثل: أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي، والنضر بن شميل المازني، والخليل بن أحمد، والقاسم ابن سلام، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، والرياشي.

ص: 180