الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الحاجة إلى مجمع لغوي:
قد أريناك أن اللغة العربية بالغة من حسن البيان ما ليس بعده مرتقى، وكانت تجري مع العلوم والحضارة جنبًا لجنب، فلا يقف عالم أو خطيب أو شاعر، إلا وجد في غزارة مادتها داحكام أساليبها، ما يمكنه من إبراز الحقائق أو المتخيلات في برود ضافية محبَّرة. ثم أدركها نقص منذ حين، وأخذت تتباطأ في مسايرة العلوم والمدنية، حتى تقدمها كثير من اللغات النامية، وأصبحت هذه اللغات تجول في كثير من العلوم والفنون، وتعبر عن معان تقف دونها اللغة العربية صامتة.
ولم تقع اللغة العربية في هذا التباطؤ لقلة مفرداتها، أو ضيق دائرة تصريفها، أو إبايتها نقل بعض كلماتها عن معانيها الأصلية إلى معان أخرى تناسبها، ولو كان لشيء من هذا دخل في تباطئها؛ لعذرنا أولئك الذين يحاولون صرف الألسنة عنها، ويدْعون إلى أن تأخذ كل جماعة بلغتها المعتلة المشوهة، ولعذرنا أولئك الذين يدعون إلى استعمال الألفاظ الأعجمية، وحشرها في منشآتنا وأشعارنا وخطبنا ومحاوراتنا، وإنما علة ذلك النقص: غفلةُ إلمعهودِ إليهم بالقيام على حياة اللغة، ومسايرتها للعلوم والفنون والمدنية.
والوسيلة التي تنهض باللغة، وترفعها إلى مستوى اللغات الراقية، هي الوسيلة التي نهضت بتلك اللغات الحية، وجعلتها تسير مع العلم والحضارة كتفًا لكتف؛ أعني: تأليف مجمع لغوي ينظر فيما تجدد أو يتجدد من المعاني، ويضع لكل معنى لفظًا يناسبه، ولا عجب أن تكون اللغات الأجنبية الراقية قائمة بحاجات العلم والمدنية؛ وأن يكون باللغة العربية خصاصة من هذه الناحية؛ فإن أصحاب تلك اللغات قد سبقونا إلى عقد المجامع اللغوية منذ
أحقاب، فالمجمع اللغوي في ألمانيا تألف سنة 1617 م، والمجمع اللغوي في فرنسا تألف سنة 1734 م، ولم ننس أن كلمات كثيرة حدثت في اللغة العربية لهذا العصر، وأصبحت تجري على ألسنة أدبائنا، وتخطها أقلام كتابنا، وهي عربية المنبت، خفيفة الوقع على السمع، آخذة حظها من مناسبة الوضع، ولكن العلوم تتدفق تدفق السيل، ومقتضيات المدنية تتجدد تجدد النهار والليل، وكل من المعاني العلمية والمرافق الحيوية يحتاج إلى أسماء تلتئم مع سائر الألفاظ العربية التئام الدرر النقية في أسلاكها، وتلك الكلمات المشار إليها إنما هي من صنع أفراد قد تنساق إليهم من نفسها، فيقع عليها اختيارهم، وتصادف في الناس حاجة، فتتلقفها ألسنتهم، وهذه الطريقة لا تشفي غلة العلم، ولا تملأ للمدنية عينًا، وإنما يشفي غلة العلوم المتكاثرة، ويملأ عين المدنية الزاخرة تأليفُ مجمع لغوي يسير مع العلوم والمدنية، لا يتأخر عنها طرفة عين.
ذكر ابن حزم في كتاب "الإِحكام" سنةً من سنن الكون في سقوط اللغة، فقال:"إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل، بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مسكنهم، أو تنقلهم عن ديارهم، واختلاطهم بغيرهم؛ فإنما يقيد لغةَ الأمة وعلومها وأخبارها قوةُ دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم؛ وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوُّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم موت الخاطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبُيود علومهم؛ هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل والضرورة".
وقد أصاب ابن حزم في حكمه على الأمة التي تقع تحت سلطان من
لا ينطق بلسانها؛ من أن لغتها تصير الى انحطاط أو ضياع، وهذه سنة لغات الأمم التي يجدها الأجنبي في جهالة، ويتمكن من أن يبقيها في جهالتها؛ أما الأمة المتيقظة لوسائل سلامتها وعزتها، فإنها تندفع في ابتغاء هذه الوسائل بكل ما تستطيع من حيلة، وتسلك له ما تهتدي إليه من سبيل؛ فلا تألو جهداً في الاحتفاظ بلغتها، والعمل لإعلاء شأنها، على الرغم من كل من يكيد لها، ويبري السهام ليرمي بها مقاتلها.
وفي البلاد التي تنطق بالعربية شعور ساطع في نفوس شيوخها وشبابها؛ ومن أثره: هذه الغيرة التي تملأ ما بين جوانحهم، وتهزُّهم أفرادًا وجماعات إلى النظر في إصلاح ما اختل من أمورنا، وإعادة ما تقوض من مجدنا؛ فنحن على ثقة من أن اللغة العربية سترفع رايتها، وتفوق اللغات الراقية بغزارة مادتها، وفضل بلاغتها؛ وما ذلك من همم أبنائها وطموحهم إلى الحياة الماجدة ببعيد.