الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو ما تتضمنه من الأسماء المستحدثة، أو الأفكار التي لم يعتن القدماء ببثها، والأساليب الخاصة بفرد، أو بأهل عصر مما يرجع في تمييزه إلى الذوق، وليس في طوق أحد أن يضبط لك أسلوباً ابتدعه كاتب أو شاعر بقواعد يدونها، حتى يمكنك إذا عرفتها أن تجري في تاليفك على نمطه بدون أن تتردد على محرراته بالنظر الجيد، وتدع في حفظك شذوراً منها، بل صاحب الأسلوب نفسه ليس في طاعته سوى أن يتصور المعنى مجملاً أو مفصلاً، ثم يطلق عليه العبارة بمقدار ما تصوره به من الإجمال أو التفصيل، فإذا وجد في أمد التعبير حرجاً، وعدم التئام مع الذوق، شعر حينئذ بأنه ذهب في غير منهجه المألوف، ولا يسعه إلا التصرف في القول بنحو تبديل الترتيب حتى يرده إلى الأسلوب.
*
طرق إختصارها:
من البين أن الألفاظ وضعت لتنقل المعاني القائمة بالذهن إلى أفهام السامعين، لا زينة في المنطق، وحلية للألسنة كيف حضرت، وهذا ما دعا الواضع أولاً إلى التقدير في وضعها، واعتباره بمقدار الحاجة إلى الإفهام، فإذا اتفق في اللفظ القصير كفاية وغنى في الدلالة على المراد، آثره في الوضع على ما هو أبسط منه؛ حتى لا تسمع في حديث مخاطبك الحكيم لاغية.
ثم إن عقول المخاطبين تتفاوت في الاستفادة من العبارات بالنظر إلى سرعتها في الإنتقال إلى المعاني وبطئها، ومن جهة قرب غايتها في الفهم وبعدها، وربَّ خطاب يلقى إلى الغبي، فيراه أبتر عن الفائدة، لا يشفي غليل المنتظر لتحصيلها، ويوجه إلى الألمعي، فيسام لبعض كلمات أو جمل تغنيه قوة الكلام وقرينة السياق عن ذكرها الصريح.
فاقتضى تمايز المخاطبين بالفطنة والغباوة أن لا يستمر البليغ في سائر
عباراته على نسق واحد، وبيان لا يختلف، وسبيله أن يلاحظ حال المخاطب أولاً، ثم يزن العبارة بحسبها، ولم يغب هذا المعنى عن العرب، فراعوا جانبه، وأضافوا إليه في الاعتبار أن الإنسان قد تدعوه الحاجة إلى الحديث في شأن، ويضيق به الوقت عن التوسع في البيان، أو يجد في نفسه ضجراً يثقل الكلام على لسانه، فوضعوا في الأساس الذي بنيت عليه لغتهم قاعدة الاختصار، ويجري في كلامهم على وجوه يرجع الفضل في بعضها إلى حكمة الواضع، ومنها ما تعود المزية فيه إلى اقتدار المتكلم ولطف تصرفه.
روعيت هذه القاعدة في كثير من المفردات حال وضعها، كما وضعوا الضمائر لتنوب عن الأسماء الظاهرة، وأقاموا علامة التثنية والجمع بأنواعه مقام العاطف والمعطوف، واستغنوا بتغيير الكلمة في التصغير عن وصف المسمى بالصغر بعد ذكر اسمه، واعتبروا في وضع أدوات الشرط زيادة على التعليق الدلالة على جنس المعلق عليه من عاقل وغيره، أو مكان أو زمان أو حال، فاكتفوا بنفس الأداة عن التصريح به من بعد، وكذلك صنعوا في أدوات الاستفهام حين أدخلوا في مفهوماتها فضلاً عن طلب الإعلام الدلالة على جنس المسؤول عنه، فإذا علمت بأن أحداً عند المخاطب، وقصدت إلى استكشاف حاله لتعرفه بعينه، فهنا لا تفيدك الهمزة في طلب تعيينه مثلما تفيدك كلمة (مَنْ)؛ إذ يلزمك مع الهمزة أن تعد الناس فرداً فرداً حتى تذكر الشخص المسؤول عنه، وربما لا يخطر على قلبك، أو كنت لا تعلم اسمه من قبل، فتستمر في تجديد السؤال: أزيدٌ عندك أو عمرو أو خالد؟ وهو يجيبك بالنفي إلى أن ينفد ما عندك من الأسماء، ولا يحصل لك الجواب المطابق، وليس على المخاطب أن يقول لك: عندي بكر - مثلاً - في جواب: أعندك زيد
…
إلخ،
وسبيله أن يجيبك بكلمة: لا، أو نعم، وكذلك القول في بقية ما يسأل عنه من مكان أو زمان أو حال أو عدد.
ومن هذا النوع: ضمير الفصل، وأدوات الاستثناء، وكلمة: إنما، فإنك تجد في ضمن استعمالها جملة ثانية تخالف الجملة المنطوق بها في الإيجاب أو السلب، وتقرب منها حروف العطف؛ لإغنائها عن إعادة العامل، ودلالتها فوق ذلك على معان أخرى؛ كمعنى الترتيب والتعقيب المستفاد من الفاء، والترتيب والمهلة المستفاد من "ثم".
وانظروا إليهم كيف خالفوا بين أواخر الكلم في هيئاتها، وأجروها على نظام محدود، فكانت أوقع في النفس، وأدعى للإعجاب؛ لما فطرت عليه النفوس المتنورة من استعظام ما يكون مرتباً على نظامات مطردة، ولو لم يجروها على قانون، ورموا بها كيف اتفق، لقل العجب بها، وفقدت من مآثر الفصاحة وجهاً بديعاً، ثم استشعروا حاجاتهم إلى التفرقة بين معان ينبني على تمايزها فهم المراد من الجملة؛ كتمييز الفاعل والمفعول والمضاف إليه، والمسند والمسند إليه، وفي طوقهم أن يضعوا للدلالة على ذلك علامات غير أحوال أواخر الكلم، ولكن جنحوا إلى طريقة الاختصار، واكتفوا بها في التمييز بين تلك المعاني، واعتمدوا في بعض الأحيان على دلالة التقديم والتأخير، وقرائن الأحوال.
وزعم ابن خلدون أن الإعراب لا يوجد إلا في لغة العرب، قال: وأما غيرها من اللغات، فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة.
وقد ثبت أن حكم الإعراب مما يوجد له أثر في اللغتين اليونانية والألمانية، وإن كانت العبرة به في لسان العرب أزيد، وعنايتهم به أقوى. ثم إن العبارة
المطابقة للمعنى المراد من نسبة أمر لآخر تقتضي بطبيعتها أن تؤلف من ثلاثة ألفاظ في الأقل، واحد للمحكوم عليه، وآخر للمحكوم به، ولفظ ثالث لإفادة النسبة بينهما، وربطِ أحدهما بالآخر طبق ما هو المنقول عن اللغة الفارسية واللغة اليونانية، فالدال على النسبة عند الفرس لفظ: است، والموضوع لها في لغة اليونان لفظ: استين، ولكن العرب اقتصروا في تأدية ذلك المعنى على لفظين، فقالوا: زيد عالم، واستغنوا عن الرابطة بهيئة وضع التراكيب وما يجري في أواخر الكلم من علامات الإعراب.
ومن اللغات الراقية ما لا يتصرف؛ مثل: اللغة التركية، وبدخول الصرف في العربية تيسر في اللفظة الواحدة أن تدل على معان؛ مثل قولنا: تحاربوا يدل بواسطة صيغته الخاصة على وقوع الحرب بين جماعة، وطبيعة المعنى تقتضي أن لا يعبر عنه باقل من أربع كلمات.
وينحتون من كلمتين فكئر كلمة واحدة؛ نحو: سمعل: إذا قال: سلام عليكم، ودمعز: إذا قال: أدام الله عزك.
وقال ياقوت في "معجم الأدباء": إن الشيخ أبا الفتح عثمان بن عيسي البلطي سأل الظهير الفارسي عما وقع في ألفاظ العرب على مثال: شقحطب، فقال: هذا يسمى في كلام العرب: المنحوت، ومعناه: أن الكلمة منحوتة من كلمتين؛ كما ينحت خشبتين، ويجعلهما واحدة، فشقحطب (1) منحوت من شق حطب، فسأله الملطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال ليعول في معرفته عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه.
(1) الكبش: له قرنان أو أربعة كل منهما كشق حطب "قاموس". جمع شقاحط وشقاطب وهو منحوت من شقّ وحطب.
ولم يقف الناس في زمن الإسلام على ما سمع منه عن العرب، فقالوا في النسبة إلى الشافعي وأبي حنيفة: شفعنتي، ولا نعد النحت من خصائص العربية، بل هو معروف في اللغات الإفرنجية، اتخذوه منبعاً يستمدون منه أسماء ما يحدث من المعاني على ممر الزمان؛ فإن جغرافيا - مثلاً - مأخوذة من جيه بمعنى أرض، وأغرافو بمعنى ارسم، وتلسكوب (المنظار الفلكي) من تيل؛ أي: بعيد، وسكوبيو؛ أي: اختبر، وجيولوجيا من جيو بمعنى أرض، ولوغوس بمعنى علم، وتلغراف مشتق من تيل؛ أي: بعيد، واغرافو؛ أي: اكتب، وتليفون من تيل؛ أي: بعيد، وفون؛ أي: صوت، وترامواي كلمة إنكليزية من ترام بمعنى قضيب منبعج، "ويه" بمعنى طريق، إلى غير ذلك من الأسماء المحدثة.
وشرع العرب سنّة الحذف، فيضمرون الكلمة، والجملةَ فما فوقها، وينبهون على المحذوف بقرينة المقال أو المقام. وحال الحذف من مقدار اللفظ الذي يستحقه المعنى كإبانة بعض أجزاء من خلقة الإنسان، والنقص في الخلقة منه ما يكون مكروهاً؛ كقطع يد أو لسان، ومنه ما يستحب دائماً، ولا يحسن في النظر سواه؛ كتقليم الظفر، وتقصير بعض الشعر، وقد يتقارب النقص والبقاء على أصل الفطرة، فيختلف الناس في ترجيح أحدهما واختياره بحسب الأشخاص والأذواق؛ كشجة تعرض في الوجه، فتزيده حسناً، وبعض أنواع اللثغ يلذ في سماع أناس، ويؤثرونه على الحرف المتمكن في مخرجه، وكذلك الحذف يجري على هذا التقسيم، منه معيب، وهو ما اختل به أداء المعنى المراد، وفسدت به هيئة الكلام، ومنه ما يدخل في سبيل الواجب، ويعد الذكر مكانه خروجاً عن قانون العربية؛ كحذف الفعل في باب التحذير التزموه عند تكرار المحذر منه، أو العطف عليه؛ لأن التحذير إنما يقع حيث
أشرف المخاطب على مهواة خطر، أو خيف عليه من الحصول في مكروه، وهذا يوجب على المتكلم المبادرة لاستيفاء الكلام، والاختصار على قدر ما يفهم المراد؛ حذراً من طول الكلام على المخاطب حتى يغشاه المخوف منه قبل أن يأخذ في سبب النجاة، وكذلك أوجبوه على أنفسهم عند حث المخاطب وإغرائه على طلب أمر محبوب؛ فإن شدة الحرص على فوزه بمرغوب فيه، وسباقه إليه تستدعي اختصار القول له ما أمكن؛ لئلا تفوته الفرصة قبل انقضائه.
ومن الحذف ما يدخل في حكم الجائز بحسب أصل الوضع، ويفوض في ترجيحه وإختياره عن الذكر إلى نظر البليغ، وما يقتضيه مقام تلك العبارة بخصوصها؛ كالحذف مع القرائن الخفية لإختبار نباهة المخاطب، والعلم بمقدار شعوره.
ونسمع من كثير: أن العربية لا تصلح في تعليم الجند، وأمرهم بالانتظام والاستعداد والهجوم وأعمال السلاح؛ بدعوى أن عباراتها الكافية للإفهام في هذا الغرض لا تبلغ غاية الاختصار المطلوب في مواقع الحروب، وهذه غفلة منهم عن وجه الحذف الذي أوجبته العربية في مثل هذه المقامات، وعدم دراية بأن الكلم المستعملة لتنظيم حال الجيش عند الأمم الأخرى إنما دخل عليها الاختصار من باب الحذف والإضمار.
وسلك العرب في طلب الإيجاز جهة أخرى سوى طريقة الحذف هي: أن يطلقوا العبارة، فتشتمل بمفهومها على معان جمة، ولا تستطيع أن تضع يدك في حشوها، أو على موضع من جوانبها، وتشير إلى كلمة أو جملة سقطت هناك، ولكنك لو أخذت المعنى من حواشيه، وأفرغته في ألفاظ تفصلها من عندك، وتقدرها بالقياس على أفهام الأوساط أو العامة الذين لا يعقلون إلا