الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
القياس على الشاذ:
للحكم الذي ورد به السماع النادر أربعة أنواع:
أحدها: أن يرد لفظ معين على وجه لم يرد السماع بخلافه، لا في اللفظ عينه، ولا فيما كان من نوعه، وسيبويه يكتفي بهذا اللفظ الواحد، ويتخذه أصلاً يقيس عليه كل ما كان من نوعه، ومثال هذا شَنَئِيّ في النسبة إلى شنوءة. فقد اكتفى بهذا الشاهد، وجعل وزن فَعِليّ قياساً في كل ما كان على صيغة فعولة، مع أنه لم يقع إليه من شواهده إلا هذه الكلمة المفردة.
وذهب الأخفش بكلمة "شنئي" مذهب الشاذ الذي لا يقوم عليه قياس، وأخذ بالأصل الأول للنسب، وهو إبقاء الكلمة على حالها، فيقال في النسبة إلى نحو فَروقة: فَروقي، ويتأيد السماع الذي عول عليه سيبويه بقياس فَعولة على فعيلة؛ فإن قياس النسبة إلى فعيلة فَعَليّ، نحو: حنَيفة وصَحيفة وبَجيلة، فيقال في النسبة إليها: حَنَفي وصَحَفي وبَجَلي.
ثانيها: أن يرد لفظ معين على وجه يخالف القياس والسماع، وهذا الوجه المخالف للقياس والسماع لا يقام له في نظر الجمهور وزن، ولا يجيزون لأحد النسج على مثاله؛ وقد حاد الأخفش عن هذا السبيل حين سمع قولهم:"هَدَاوَى" في جمع هدية، فجعله مقيسًا في كل ما كان لامه ياء، وهذه الكلمة شاذة عن السماع والقياس؛ إذ المسموع والموافق للقياس في مثل هذا بقاء الياء بحالها، فيقال في جمع هدية وعطية ومزية وبلية وتحية: هدايا وعطايا ومزايا وبلايا وتحايا.
ومن هذا القبيل: أن القياس في اسم المفعول المأخوذ من الفعل الثلاثي المعتل العين بالواو وحذت أحد الواوين، فيقال في اسم المفعول من "رام":
مَرُوم، وورد في ألفاظ معدودة النطقُ بالواوين كليهما، فقال بعض العرب: ثوب مَصْوُون، ومِسْك مَدْوُوف (1)، وفَرس مَفْوود. ومثل هذه الكلمات الشاذة تحفظ عند الجمهور، ولا يصح لأحد أن يقيس عليها، وخالفهم في هذا المبرِّد، وألحقها بقبيل ما يقاس عليه.
ثالثها: كلمات معدودة تأتي على وجه مخالف للقياس، ويكثر استعمالها على الوجه المخالف، حتى يقل أو يفقد استعمالها على وجه القياس؛ مثل: استحْوَذ واستصْوَب، فقد ورد على خلاف القاعدة القاضية بقلب واوهما ألفاً، كما يقال: استقام، واستعاذ، واستنار، ومثلُ عيَيْد؛ تصغير عيد، ومقتضى القياس: عُويد؛ لأنه مثل عاد يعود، والتصغير كالجمع يرد الأسماء إلى أصولها.
ومن هذا النوع ما يرد على الوجه الموافق للقياس أيضاً؛ نحو: استحوذ، واستصوب، فقد ثبت عن العرب أنهم قالوا: استحاذ، واستصاب، فيجوز لك العمل فيه على الوجهين، بيد أن الوجه الأكثر في السماع هو الأرجح في الاستعمال؛ لأنه مالوف عند المخاطبين أكثر من الوجه الذي قلَّ في السماع، وإن كان أرجح من جهة القياس.
أما الألفاظ التي لم ترد إلا على الوجه المخالف للقياس؛ نحو: عيَيْد، فيقتصر فيها على ما ورد عن العرب، إلا أن يبدو لك أن تتعلق بمذهب من يجيز إجراء الألفاظ على مقتضى القياس زيادة على الوجه الثابت من طريق السماع، وسنحدثك عن هذا في فصل:"القياس في صيغ الكلم واشتقاقها".
(1) مبلول أو مسحوق، وسمع؛ مدوف على القياس.
رابعها: أن ترد ألفاظ معينة على ما يوافق القياس، ويخالف السماع، ومثال هذا: أن المعروف في خبر "عسى" كونه مضارعاً مقروناً بأن، أو مجرداً منها، وورد اسماً صريحاً في أمثلة معدودة، فقالوا في المثل:"عسى الغوير أبؤسا"، وقال الشاعر:
"لا تعذلن إني عسيت صائما"
والخلاصة: أن النحاة يختلفون في الوارد على وجه الشذوذ من حيث الاعتداد به في القياس، وفي "شرح الفصيح" لابن خالويه:"كان الأصمعي يقول أفصح اللغات، ويلغي ما سواها. وأبو زيد يجعل الشاذ والفصيح واحداً".
وممن أنكر القياس على الشاذ: ابن السراج، فقال:"ولو اعترض بالشاذ على القياس المطرد، لبطل أكثر الصناعات والعلوم، فمتى سمعت حرفاً مخالفاً لا شك في خلافه لهذه الأصول، فاعلم أنه شذ، فإن كان سمع ممن ترضى عربيته، فلابد أن يكون قد حاول به مذهباً، أو نحا نحواً من الوجوه، أو استهواه أمر غلطه".
والمعروف في علم النحو: أن الكوفيين يعتدون بما ورد من الكلمات الشاذة، ويعملون بالقياس عليها، والبصريون يمتنعون من القياس على الشاذ، ويذهبون في مثله إلى أن قائله نحا به نحواً خلاف ما يظهر منه، ويردونه إلى الأصل المعروف عندهم على طريق من التأويل، وبعض النحاة كابن مالك لا يكلف نفسه تأويل الشاذ، ولا يذهب فيه مذهب الكوفيين من إباحة القياس عليه، بل يصفه بالشذوذ، أو يجعله من قبيل ما دفعت إليه الضرورة.
ومن أمثلة هذا أنهم ذكروا في شروط صيغة أفعل التفضيل: أن لا يكون
أصل الوصف على وزن أفعل؛ نحو: أبيض، وأسود، ولما جاءهم قول الشاعر:
جارية في درعها الفضفاضِ
…
أبيض من أخت بني إباض
أنزله الكوفيون منزلة المقيس عليه، وتأوله البصريون على أنه من قولهم:"باض فلاناً": إذا غلبه، وفاقه في البياض، وأبقاه ابن مالك على ظاهره، وطرحه إلى المسموعات الشاذة.
ومن الأقوال الشاذة ما لا تجد للتأويل فيه مساغاً، ومن أمثلته: أن البصريين يمنعون أن تجمع الصيغة التي لا تقبل تاء التأنيث جمع مذكر سالم؛ نحو: أسود، وأحمر، وأجازه الكوفيون تمسكاً بقول الشاعر:
فما وجدت نساء بني تميم
…
حلائلَ أسوديِنَ وأحمريِنَ
ولا يتخلص البصريون من هذا الشاهد إلا بطرحه إلى النادر الذي لا يقوم عليه قياس.
والتأويل إنما يقتحمه البصريون إذا كان اللفظ المخالف للمعروف في اللسان واردًا عن الفرد ونحوه ممن يتكلم باللغة المألوفة، وأما إذا ثبت أنه لغة قبيلة، فلا وجه لتأويله والخروج به عن ظاهره، ولهذا أبطل ابن هشام تأويل أبي علي الفارسي، وأبي فزار لقولهم:"ليس الطيب إلا المسكُ"- برفع المسك-؛ لأن أبا عمرو بن العلاء أثبت أن رفع خبر "ليس" الواقع بعد "إلا" لغة تميم.
والحق - فيما يظهر - أن ما يجيء على غير القياس قسمان:
أحدهما: أن يكون كلام العرب سائراً على سنة معروفة، ووضع عام، فتسمع الكلمة أو نحوها ممن لا يعرف بالفصاحة، وهي تخالف المعروف في مجاري الكلام، فهذه لا تصلح أن تكون موضعاً للقياس، بل الكلمة أو
الكلمتان لا تقومان في وجه القاعدة التي يجري عليها الفصحاء في عامة مخاطباتهم، ولو نقلت عن فصيح عربي؛ إذ يجوز أن تكون قد صدرت منه على وجه الغلط، أو القصد إلى تحريف اللغة؛ فإن ألسنة الفصحاء قد تقع في زلة الخطأ، وتطوع لهم متى قصدوا إلى تغيير الكلمة عن وصفها المعروف لهزل ونحوه.
وقد جرت عادة النحاة أن يصفوا خروج العربي الفصيح عن الشذوذ، ولا يبالون أن يُسمّوا خروج المولَّد عنها بالخطأ واللحن، وقد يصفون خروج العربي عن الأصول بالغلط؛ بناء على أن العربي يستطيع أن يلحن إذا تعمد اللحن، كما أنه يستطيع أن يتكلم بغير لغته إذا تعمد ذلك.
يذكر النحاة في شروط عمل "ما" عمل ليس في لغة أهل الحجاز: مراعاة الترتيب؛ بحيث لا يتقدم خبرها على اسمها، فورد قول الفرزدق:
"إذ هم قريش وإذ ما مثلَهم أحدُ"
فقدم خبر "ما" على اسمها، فقالوا: قول الفرزدق هذا شاذ، أو غلط؛ أي: لحن؛ لأن الفرزدق تميمي، وأراد أن يتكلم بلغة أهل الحجاز، ولم يدر أن من شرط نصبها للخبر الترتيب بين اسمها وخبرها؛ وقولهم: إن العرلى لا يقدر أن ينطق بغير لغته، محمول على تكلُّمِه وهو على حال سليقته، وأما عند تعمده النطق بالخطأ، أو بغير لغته، فذلك ميسور له من غير شبهة.
ثانيهما: ما يرد في الكلام الفصيح، وتتحقق أنه لم يصدر عن خطأ أو تلاعب في أوضاع اللغة؛ مثل: آيات الكتاب الحكيم، والأحاديث التي قامت القرائن على أنها مروية بألفاظها العربية الصحيحة، وهذا إن كان كلمة خرجت عما نسميه قياساً، نحو:"معائش"- بالهمز - في إحدى القراءات