المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ وجهات البحث النحوي: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(10)«دِرَاسَاتٌ فِي العَربيَّةِ وَتَاريخِهَا»

- ‌المقدمة

- ‌القياس في اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية

- ‌ اللغة:

- ‌ أصل نشأة اللغة:

- ‌ تأثير الفكر في اللغة:

- ‌ تأثير اللغة في الفكر:

- ‌ هل يمكن اتحاد البشر في لغة

- ‌ اللغة العربية لا تموت:

- ‌ اللغة في عهد الجاهلية:

- ‌ تأثير الإسلام في اللغة:

- ‌ فضل اللغة العربية:

- ‌ الحاجة إلى مجمع لغوي:

- ‌تمهيد

- ‌ الحاجة إلى القياس في اللغة:

- ‌ أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات

- ‌ القياس الأصلي:

- ‌ الحديث الشريف:

- ‌ القياس على الشاذ:

- ‌ القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر:

- ‌ سبب اختلافهم في القياس:

- ‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها:

- ‌ الاشتقاق من أسماء الأعيان:

- ‌ ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق

- ‌ قياس التمثيل:

- ‌ قياس الشبه وقياس العلة:

- ‌ أقسام علة القياس:

- ‌ أقسام قياس العلة:

- ‌ شرط صحة قياس التمثيل:

- ‌ مباحث مشتركة بين القياس الأصلي، والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال:

- ‌ القياس في الترتيب:

- ‌ القياس في الفصل:

- ‌ القياس في الحذف:

- ‌ القياس في مواقع الإعراب:

- ‌ القياس في العوامل:

- ‌ القياس في شرط العمل:

- ‌ القياس في الأعلام:

- ‌ الكلمات غير القاموسية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌دلالة الألفاظ

- ‌ تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية:

- ‌ أطوار اللغة العربية:

- ‌ فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها:

- ‌ حكمة تراكيبها:

- ‌ تعدد وجه دلالتها:

- ‌ تعدد أساليبها:

- ‌ طرق إختصارها:

- ‌ اتساع وضعها:

- ‌ إبداع العرب في التشبيه:

- ‌ اقتباسهم من غير لغتهم:

- ‌ ارتقاء اللغة مع المدنية:

- ‌ اتحاد لغة العامة والعربية:

- ‌ حياة اللغة العربية:

- ‌الاستشهاد بالحديث في اللغة

- ‌ ما المراد من الحديث

- ‌ هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب

- ‌ الخلاف في الاحتجاج بالحديث:

- ‌ وجهة نظر المانعين:

- ‌ وجهة نظر المجوزين:

- ‌ مناقشتهم لأدلة المانعين:

- ‌ تفضيل وترجيح:

- ‌موضوع علم النحو

- ‌ وجهات البحث النحوي:

- ‌التضمين

- ‌تيسير وضع مصطلحات الألوان

- ‌ أسماء الألوان

- ‌ القابل للتصريف من أسماء الألوان الساذجة:

- ‌ أسماء الألوان الساذجة غير القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء هيئات الأشياء المركبة من ألوان:

- ‌ أسماء الألوان المركبة القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء الألوان المركبة غير قابلة التصريف:

- ‌ الأسماء المراعى في معانيها لون:

- ‌ أسماء إيجاد الألوان:

- ‌حول تبيسيط قواعد النحو والصرف والرّد عليها

- ‌ باب الإعراب:

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ الجملة:

- ‌ تسمية الجزأين الأساسيين:

- ‌ أحكام إعرابهما:

- ‌ الترتيب بين الموضوع والمحمول:

- ‌ المطابقة بين الموضوع والمحمول:

- ‌ متعلق الظرف وحروف الإضافة:

- ‌ الضمير:

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

- ‌ ملاحظات الإمام على الاقتراحات:

- ‌ الاقتراحات

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ تسمية الجزأيين الأساسيين للجملة:

- ‌ أحكام إعرابها:

- ‌ المطابقة بين المحمول والموضوع:

- ‌ متعلق الظروف وحرف الإضافة:

- ‌ الضمير

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

الفصل: ‌ وجهات البحث النحوي:

ثم لا ينتهون إلى كلمة فاصلة".

النحاة يبحثون عن الأساليب التي لا يقال للناطق بها: قد جئت بما لا تتكلم به العرب، فإذا أجازوا في بعض التراكيب وجهين، أو وجوهاً من الإعراب، فمعنى ذلك: أن هذين الوجهين، أو تلك الوجوه قد تكلم بها العرب عند تأدية المعنى الأصلي لذلك التركيب، يقولون هذا، ولا ينفون أن يكون لكل وجه من الوجهين أو الوجوه أثر في تصوير المعنى الأصلي يغاير الآثار التي قد يحدثها غيره من الوجوه، فهم إذا اختلفوا في وجه من وجوه الإعراب يجيزه طائفة، ويمنعه آخرون، فإن اختلافهم يرجع إلى أن هذا الوجه قد نطق به العرب في مثل هذا التركيب، أو لم ينطقوا، وبعد أن يقوم الشاهد على جواز وجهين أو وجوه في التركيب، قد ينبهون إلى ما يفترق به الوجهان أو الوجوه من الأثر في رسم المعنى الأصلي وتصويره، وإن صح أنهم لم ينتهوا في جدلهم إلى كلمة فاصلة، فلأن المجيز لبعض الوجوه لم يقم الشاهد المقنع لخصمه من كلام فصيح، أو قياس صحيح.

*‌

‌ وجهات البحث النحوي:

ذكر المؤلف شدة عناية العرب بالإعراب، وساق على ذلك شواهد، وتخلص منها إلى وصف النحاة بأنهم أطالوا مراقبة أواخر الكلمات، وأنهم قد يختلفون فيها، ويتجادلون عندها، ثم قال: "وطول هذه المراقبة، ودأبهم عليها هداهم إلى كشف سر من أسرار العربية عظيم، وهو أن هذه الحركات ترجع إلى علل وأسباب يطرد حكمها في الكلام، ويمكن الرجوع إليها، والاحتجاج بها، وقد أعجبوا بهذا الكشف إعجاباً عظيماً، فألحوا في الدرس، وفي تتبع الأواخر، والكشف عن أسرار تبديلها، وسموا ما كشفوا أول الأمر:

ص: 199

علل الاعراب، أو: علل النحو، ثم لم يلبثوا أن أوجزوا، فسموها: علم النحو، أو الإعراب".

العلل التي يذكرها النحاة على أن العرب راعتها، وبنت عليها أحكام ألفاظها ترجع إلى ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يقرب مأخذه، ويتلقاه النظر بالقبول؛ كما وجهوا تحريك بعض الحروف والساكنة بالتخلص من التقاء الساكنين، ووجهوا حذف أحد الحرفين المتماثلين بطلب الخفة.

ثانيهما: ما يكون من قبيل الفرضيات التي لا تستطيع أن تردها على قائلها، كما أنك لا تضعها بمحل العلم، أو الظن القريب منه، كما قالوا في وجه بناء قبلُ وبعدُ: إنهما شابها الحرف في احتياجهما إلى المحذوف، وهو المضاف إليه.

ثالثها: ما يجري فيه بعض النحاة على ما يشبه التخييل، ويسهل عليك أن ترده على صاحبه، وأنت واثق من أنك دفعت عن العلم شيئاً لا يتصل بأول منه ولا بآخر، ومن هذا القبيل - فيما أرى -: قول بعضهم في تعليل عدم جواز اتصال الضمير الثاني في نحو: أعطاه إياك، فلا تقول: أعطاهك؛ بأن الضمير الثاني أشرف أنه أعرف، فيأنف من كونه متعلقاً بما هو أدنى منه.

أما النوعان الثاني والثالث، فلا يدخلان في صلب العلم، ولا ملحه، وأما النوع الأول، فهو الذي يصح أن يدخل في علم النحو على أنه من أسرار أحكامه، والنحاة يعدونه في المرتبة الثانية، ومنهم من يصرح بأنه ليس من مقصود علم النحو.

قال أبو إسحق الشاطبي في "شرح الخلاصة": "وعلم النحو يحتوي

ص: 200

على نوعين من الكلام"، وذكر أول النوعين، وهو إحراز اللفظ عند التركيب عن التحريف والزيغ عن معتاد العرب في نطقها، ثم قال: "والنوع الثاني: التنبيه على أصول تلك القوانين، وعلل تلك المقاييس والأنحاء التي نحت العرب في كلامها وتصرفاتها مأخوذاً ذلك من استقراء كلامها، وهذا النوع مهم، وليس بواجب، ولا هو المقصود من علم النحو، فلذلك لم يتعرض له الناظم (يعني: ابن مالك)؛ إذ لا ينبني عليه من حيث انتحاء سمة كلام العرب شيء، لكن لما كان هذا النوع لائقاً بغرض الشرح، لم أخل هذا الكتاب (يعني: شرحه للخلاصة) منه".

وتحدث المؤلف بعد هذا على كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، ووصفه بأنه حاول أن يبين ما في الجملة العربية من تقديم أو تأخير، أو حذف، أو غيرها، ثم قال:

"ولكن النحاة - والناس من ورائهم كانوا قد شغلوا بسيبويه ونحوه، وفتنوا به كل الفتنة"، وقال:"فلم تتجه عنايتهم إلى شيء مما كشف عنه أبو عبيدة في كتابه "مجاز القرآن"، وأُهمل الكتاب، ونُسي"، ثم نقل المؤلف نحو ثلاث صفحات مما جاء في مجاز أبي عبيدة، ليبين بها كيف كان أبو عبيدة يتكلم عما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابها من سر العربية، ونظم تأليفها".

لم يرد أبو عبيدة بتأليف "مجاز القرآن" البحث عن قوانين النحو، وإنما أراد بيان ما قد يخفى فهمه من الآيات، فيقف الذهن مستكشفاً عنه، فذكر وجوهاً يدل بها على المعنى الذي يطابق استعمال الكلمات أو الجمل عربية، أو وجوهاً ينبه بها القارئ على شيء من حسن بيان الآية، وأخذها

ص: 201

من البلاغة مكانتها السامية.

وإذا نظرنا في هذه الصفحات الثلاث التي نقلها المؤلف من كتاب "مجاز القرآن"، وجدناها تشتمل على سبعة أحكام تتعلق بالأساليب.

أولها: إيراد الضمير مفرداً في سياق الحديث عن أمرين أو أمور، فذكر أنه قد يراعى في هذا الضمير الأول؛ كما ورد في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا (11)} [الجمعة: 11]، وقد يراعى في استعماله الأمر الأخير؛ كما ورد في قوله تعالى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: 112].

وقد تعرض النحاة لمثل هذا البحث، إذ ذكروا في بحث الضمير شرط مطابقته لمرجعه من جهة التذكير والتأنيث والإفراد والجمع، وأوردوا آيات جاء فيها الضمير مفرداً، ومرجعه فيما يظهر متعدد، وتأولوها على وجوه لا تنافي شرط المطابقة؛ كقوله تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ومن الوجوه التي ذهبوا إليها في الآية: أن عود الضمير على أحدهما لا يخل بالمعنى؛ لأن في إرضاء الله إرضاء الرسول، وفي إرضاء الرسول إرضاء الله.

ثانيها: ما عبر عنه أبو عبيدة بمخاطبة الغائب، ومعناه: الشاهد، وقال في قوله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] مجازه: هذا القرآن. واستعمال أسماء الإشارة الموضوعة للبعيد، في مشار إليه قريب، قد تعرض له علماء المعاني، وجعلوه من موضوع علمهم (1).

ومن النحويين من يتعرض له، ويسوقه في تأليفه النحوي على طريق البسط، ومن هؤلاء: العلامة الرضي؛ فقد بحث في وجوه استعمال الإشارة،

(1) بحث تعريف المسند اليه بالاشارة.

ص: 202

وتعرض لاستعمال اسم الإشارة البعيد في مشار إليه قريب، وقال في أثناء البحث: "ويجوز أن يكون قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]، من باب عظمة المشار إليه، أو المشير (1).

ثالثها: الانتقال من مخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب، قال هذا في تفسير قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 2]، وقد أشار بهذا إلى النوع المسمى: بالالتفات، والالتفات قد تناوله علماء الأدب في القديم؛ كابن المعتز، وقدامة، وأدخلوه في مباحث علم البيان.

وإذا ترك النحاة البحث في الالتفات إلى علماء البديع، فلأنه يرجع إلى وجه من وجوه حسن البيان، وقد وجهوا أنظارهم إلى استعمال الضمير مكان آخر يوافقه في المعنى، كما بحثوا عن صحة مثل قولك: أنت الذي أكرمتني، أو أنا الذي قمت، مكان: أنت الذي أكرمني، وأنا الذي قام، فأجازوه، وبحثوا عن مثل قولك: الذي أكرمتك أنا، أو الذي أكرمتني أنت، فمنعوه، فالحق أن النحاة لم يتركوا البحث عن وجه من وجوه نظم الكلام إلا أن يدعوه لفن يرونه أحق به من فنهم.

رابعها: التكرار للتوكيد، فقال:"ومن مجاز المكرر للتوكيد قال: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] أعاد الرؤية، وقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34] أعاد اللفظ".

وقد تحدث النحاة في باب التوكيد عن هذا النوع المسمى عندهم: التوكيد اللفظي؛ من جهة أنه يتبع المؤكد في إعرابه، أو من جهة أنه أسلوب

(1)"شرح الكافية"(ص 13 ج 2).

ص: 203

عربي صحيح، وساقوا عليه شواهد من القرآن والحديث والشعر، وتحدث عنه البيانيون في بحث توكيد المسند إليه من جهة ما يقتضيه من الأحوال.

خامسها: تقديم المؤخر، وتأخير المقدم، وساق عليه قوله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، وقال:"أراد: ربت، واهتزت".

والنحاة يتعرضون لمثل هذا بما يقولونه من أن العطف بالواو لا يفيد ترتيباً، فيجوز لك أن تعطف بها المتأخر في الواقع عن المتقدم، ولا تعد بما فعلت مخطئاً الأسلوب العربي.

وإذا أجاز النحاة تقديم المؤخر على معنى أنه لا يخرج بنظم الكلام عن الأسلوب العربي الصحيح، بقي للباحث عن البلاغة النظر في وجه تقديم كذا في النظم، وهو مؤخر في المعنى.

سادسها: أن يكون الحديث عن سبب شيء، فتحول الحديث عن السبب إلى الشيء نفسه، قال: هذا في معنى قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]؛ فإنه حول الخبر، وهو وقوله {خَاضِعِينَ} عن الأعناق إلى من أضيفت إليهم الأعناق.

وقد تعرض النحاة في بحث جمع المذكر السالم لوجه ورود {خَاضِعِينَ} في الآية وصفاً للأعناق على خلاف المعروف من أن وصف غير العاقل لا يأتي على هذا الجمع، فقال الرضي: "وقد شبه غير أولي العلم بأولي العلم في الصفات إذا كان مصدر تلك الصفات من أفعال العلماء؛ كقوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقوله:{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ، وقوله:{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، ومثله في الفعل:{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

ص: 204

سابعها: حذف حرف النداء، قاله في تفسير قوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4].

وحذف حرف النداء من الأحكام التي يذكرها النحاة في باب النداء.

ثامنها: زيادة "لا" النافية. قال في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] مجازه: غير المغضوب عليهم والضالين.

وقد بحث النحاة في حروف الزيادة، وأتوا على مواضع زيادتها، ومما تناولوه في بحثهم: زيادة حرف "لا"، وذكروا في الحديث عن مواضع زيادتها: أنها تزاد بعد حرف العطف.

ثم أخذ المؤلف في حديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ونقل ما كتبه في "دلائل الإعجاز" عن معنى النظم، وخرج منه باعتقاد أن الشيخ قد رسم في كتابه المذكور "طريقاً جديداً للبحث النحوي، تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب".

ونحن نسوق إليك عبارات الشيخ التي حملها المؤلف على أنها تنبيه لطريق جديد للبحث في النحو، ونريك أن غرض الشيخ في ناحية غير الناحية التي نظر إليها المؤلف عند تفهم كلامه.

قال الشيخ عبد القاهر في (صفحة 61) من الكتاب المذكور:

"واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت، فلا تخلّ بشيء منها".

موضوع حديث الشيخ عبد القاهر: الفصاحة التي هي بمعنى البلاغة والبراعة، وهي الوصف الذي يقع به التفاضل في خصلة البيان.

ص: 205

أراد الشيخ أن يحقق البحث عن منشأ هذه الفصاحة وموطنها، فأنكر أن تكون من صفات الألفاظ المفردة، والكلم المجردة، وقرر أنها من صفات الألفاظ باعتبار إفادتها المعاني عند التركيب.

وكلمة النظم يطلقها الشيخ، ويريد بها: تطبيق الكلام لمقتضى الحال، فيقول مرة:"النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام"، ومعنى توخي معاني النحو: إيرادها على حسب الأغراض، ومعاني النحو هي: التقديم والتأخير، والحذف والذكر، والتكرار والإضمار، والتعريف والتنكير، ونحو ذلك. ويقول مرة:"ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله".

والقوانين التي أشار إليها هي أحكام المبتدأ والخبر، والفاعل والمفعول، والحال والتمييز، والمضاف والمضاف إليه، والتوابع، والشروط والجزاء، وغيرها، وأحكام هذه الأبواب ترجع إلى الإعراب، والتقديم والتأخير، والحذف والذكر، وغير ذلك مما يبحث عنه في علم النحو.

ومعنى وضع الكلام الموضع الذي يقتضيه علم النحو: أن تضع كل واحد من مفرداته ومركباته، موضعه الذي يقتضيه علم النحو، ووضع المفردات والمركبات على وفق النحو لا يكفي لارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول إلا بعد أن يفيد الأغراض التي تراد منه، ووضع المفردات والمركبات على وجه يفيد هذه الأغراض، قد تهدي إليه السليقة، وقد تساعد عليه معرفة علم المعاني.

ومعنى العمل على قوانين النحو: أن يكون تأليف الكلام على طبق قوانين النحو؛ بأن لا يرتكب فيه ضعف التأليف، أو التعقيد اللفظي، ولكن

ص: 206

وضع المعاني النحوية التي هي الحذف ونحوه من التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير في مواضعها إنما يعرف بالملكة التي تتربى من كثرة كلام البلغاء، أو دراسة علم المعاني.

فكلام الشيخ عبد القاهر يشبه قول الزمخشري في مقدمة "المفصل" يمدح علم النحو: "وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان، المطلع على نكت نظم القرآن".

ثم إن الشيخ عبد القاهر بعد أن قال: "أن تنظر في الخبر، وتنظر إلى الحروف؛ فتضع كلاً من ذلك في خاص معناه"، قال:"فتنظر في الجمل التي ترد، فتعرف موضع الفصل من موضع الوصل، وفي الوصل موضع الواو من الفاء، والفاء من ثم، إلى غير ذلك".

والمراد: أنك بعد أن تنظر إلى الوجوه التي تذكر في النحو؛ تعرف أن لكل واحد منها موضعاً مخصوصاً عند تركيب الكلام باعتبار إفادتها الأغراض المطلوبة منها، وتجيء بكل واحد في موضع ينبغي له.

والخلاصة: أن تنظر في الجمل التي تؤلف باعتبار العوارض التي يبحث عنها في علم النحو من العطف بالحروف المختلفة المعاني وتركه، فتعرف بالسليقة، أو بعلم المعاني موضع كل منها بحسب الأغراض المطلوبة منها، فتجيء به في موضعه.

وقد رأيت الشيخ كيف ذكر وجوهاً من تصرفات الخبر، ووجوهاً من تصرفات الشرط والجزاء، وأشار إلى حال التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، ونبه على أن النظم أن تضع كلاً من ذلك مكانه، وتستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له، ثم قال:

ص: 207

"ولست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه".

فالنحوي يدلك على أن المبتدأ والمفعول - مثلاً - متى فهم بقرينة حال أو مقال، جاز حذفه، ولكن هذا المعنى النحوي الذي هو الحذف لا يأخذ به الكلام حكم الصواب عند البلغاء إلا أن تصيب به موضعاً من مواضعه المعروفة لدى السليقة العربية الصحيحة، أو الملم بالقوانين المبحوث عنها في فن البلاغة.

ومن الظاهر أن الشيخ عبد القاهر عندما ذكر أن النظم توخي معاني النحو، والعمل على قوانينه وأصوله، يريد: النحو الذي كتب فيه النحاة قبله، مثل: سيبويه، وأبي علي الفارسي، وابن جني، ويريد القوانين والأصول المقررة في كتب هؤلاء وأمثالهم، وليس من المحتمل أن يريد نحواً وقوانين وأصولاً لم يتكلم أو لم يحقق البحث فيها العلماء من قبله. ننفي هذا الاحتمال؛ لأنه يذكر النحاة وأصولهم وقوانينهم ذكرَ من هو راضٍ عنها، ولم يرمِهم كما رماهم المؤلف بإزهاق روح فكرة النحو، وعدم الاهتداء في أبحاثهم النحوية، ولو أن الشيخ عبد القاهر يريد أن يرسم طريقاً جديداً للنحو، لنبه -ولو بايماء ولطف- على أن النحاة ضيقوا دائرة النحو؛ وأهملوا جانباً من معانيه وأصوله.

وقد رأينا الشيخ عبد القاهر قد ألف في النحو مثل شرحه لكتاب الإيضاح الذي سماه: "المقتصد"، وذهب فيه مذهب النحاة من قبله ومن بعده في تقرير القواعد التي يستقيم بها التركيب، ويسلم بها من آفة الفساد، تاركين النظر فيه من جهة الفصاحة وحسن البيان إلى علماء البيان.

ص: 208

وإذا قال الشيخ: إن النظم يعني البلاغة والبراعة أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، فهذا القول لاغبار عليه، ولا يقتضي أن رعاية قوانين النحو وحدها كافية في صوغ الكلام البليغ، أو فهم ما في الكلام من بلاغة عند سماعه، ذلك لأن النحو كما قدمنا يبحث عن المفردات والجمل من حيث هيئاتها التركيبية؛ فيفتح أمامك طرقاً متعددة للتعبير عن المعاني الوضعية، وليس من شأنه التعرض للأغراض التى يستدعي كل واحد منها طريقاً خاصاً، فما من غرض يعرض لك إلا وجدت له في النحو طريقاً تعبر به عنه، ولكن معرفة أن هذا الغرض يؤدى بهذا الطريق تحتاج فيه إلى وسيلة أخرى هي السليقة، أو تتبع علم المعاني، ونريد من الأغراض التي ليس من شأن علم النحو أن يبحث عنها: ما يسميه علماء البلاغة: المعاني التابعة؛ كالتعظيم يؤدى بالتركيب الذي يعبر فيه باسم الاشارة للبعيد، والتحقير يؤدى بالتركيب الذي يحذف فيه المسند إليه.

ودلالة الألفاظ على هذه الأغراض لم تكن بطريق الوضع، ولهذا لا يبحث عنها علماء اللغة أيضاً.

ذكر المؤلف: أن الشيخ عبد القاهر قد بلغ أقصى الجهد في تصوير رأيه وتوضيحه، وقال "فجمهور النحاة لم يزيدوا به في أبحاثهم النحوية حرفاً، ولا اهتدوا منه بشيء".

لم يزد النحاة بكتاب "دلائل الإعجاز" حرفاً؛ لأنه لم يؤلف في علم النحو، ولا قصد مؤلفه أن يزيد في علم النحو مسألة، وليست مباحثه مما تهدي إلى شيء من علم النحو.

وكيف يستقيم رأي المؤلف في أن عبد القاهر يقصد رسم طريق جديد

ص: 209

في النحو، وعبد القاهر يدلنا في فاتحة كتابه أنه مؤلف في فن البيان؛ إذ قال بعد الحديث عن شرف العلم: "ثم إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً، وأبسق فرعاً، وأحلى جنى، وأعذب ورداً، وكرم نتاجاً، وأنور سراجاً، من علم البيان الذي لولاه، لم تر لساناً يحوك الوشي

الخ".

وسمى الشيخ علم البيان: علمَ الفصاحة، فذكر أن القرآن كان معجزاً بالمزايا التي ظهرت في نظمه، والبدائع التي راعت العرب، وأنه يجب على العاقل أن يبحث عن تلك المزايا والبدائع ما هي؟ ولم هي؟ وكيف هي؟ ثم قال:

"ولا يمكن ذلك إلا بالبحث عن حقيقة المجاز والحقيقة، والاستعارة والتشبيه والتمثيل، وحقيقة النظم، والتقديم والتأخير، والإيجاز والحذف، والوصل والفصل، وسائر وجوه المحاسن المعتبرة في النظم والنثر"، ثم قال:"وإذا ثبت ذلك، كان العلم الباحث عن حقيقة الفصاحة، والكاشف عن ماهيتها، والمتفحص عن أقسامها؛ والمستخرج لشرائطها وأحكامها، والمقرر لمعاقدها وفصولها، والملخص المحرر لفروعها وأصولها، باحثاً عن أشرف المطالب الدينية، وأرفع المباحث اليقينية".

قال المؤلف: "وآخرون منهم أخذوا الأمثلة التي ضربها عبد القاهر بياناً لرأيه، وتأييداً لمذهبه، وجعلوها أصول علم البلاغة، سموه: علم المعاني، وفصلوه عن النحو فصلاً أزهق روح الفكرة، وذهب بنورها، وقد كان أبو بكر يبدي ويعيد أنها معاني النحو، فسموا علمهم: "المعاني"، وبتروا هذا الاسم البتر المضلل".

قد أريناك أن الشيخ عبد القاهر قد ذكر علم النحو، وقرر أن هناك علماً

ص: 210

يسمى: علم البيان، وهو العلم الذي تحدث عنه بعدُ بأنه العلم الباحث عن حقيقة الفصاحة، وذكر في قبيل ما يبحث عنه في هذا العلم: المجاز والاستعارة، والتشبيه والتمثيل، وحقيقة النظم، والتقديم والتأخير، والإيجاز والحذف، والفصل والوصل

إلخ.

ولا يصح أن يكون المراد من علم البيان: علم النحو؛ فإنه عد في موضوع علم البيان: المجاز والاستعارة، والتشبيه والتمثيل، ولا أظن المؤلف يقدم على دعوى أن هذه المباحث من قبيل علم النحو، فإن ظهر للمؤلف أن يترك المجاز والاستعارة ونحوها إلى علم البيان، ويأخذ مباحث التقديم والتأخير ونحوها إلى علم النحو، فإن هذا رأي المؤلف، لا رأي الشيخ عبد القاهر، وإذا كانت أحوال التركيب في الواقع نوعين:

أحوال يخلص بها الكلام من فساد البنية وعيب اللحن، وأحوال يرتفع بها شأن الكلام في الحسن، فليس لنا أن ننكر على علماء العربية إذا فصلوا بين النوعين، وجمعوا مباحث كل نوع منهما على جانب، وعدُّوه علماً مستقلاً، ذلك أن هذا الصنيع أقرب إلى تنظيم العلوم، ووضع مسائلها في سلك محكم من التناسب.

ص: 211