الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا وجه الحاجة إلى القياس في صيغ الكلم واشتقاقها، ولا يخفى عليك - بعد هذا - وجه الحاجة إلى فتح باب القياس في نظُم الكلام، وما يعرض للكلم من نحو التقديم والتأخير، والاتصال والانفصال، والإعراب والبناء، والحذف والذِّكر؛ فإن تباين الأغراض، وتشعب العلوم، وتفاوت عقول المخاطبين، واختلاف أذواقهم، مما يستدعي إطلاق العنان للمتكلمين يذهبون في البيان كل مذهب قيِّم، ويتعلقون منه بكل أسلوب مقبول، حتى يظهر فيهم الخطيب المصقع، والشاعر المفلق، والكاتب المبدع، والمناظر المفحِم، والمحاضر الغوَّاص على الدرر، والعلامة المُجلي للمعاني الغامضة في أجمل الصور.
*
أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات
؟
تجري كلمة القياس عند البحث في معاني الألفاظ العربية وأحكامها، فترد على أربعة وجوه:
أحدها: حمل العرب أنفسِهم لبعض الكلمات على أخرى، واعطاؤها حكمها لوجه يجمع بينهما، كما يقال: أُعرب الفعلُ المضارع؛ قياساً على الاسم؛ لمشابهته له في احتماله لمعان لا يتبين المراد منها إلا بالإعراب. وإلى هذا أشار الزمخشري في بعض مقاماته بقوله: "ضارعِ الأبرار بعمل التوَّاب الأوَّاب، فالفعل لمضارعته الاسمَ فاز بالإعراب".
وكما يقال: دخلَتِ الفاء خبر الموصول في نحو قولهم: "من يأتيني، فله درهم"؛ قياساً للموصول على الشرط؛ لمشابهته إياه في إفادة العموم.
وكما يقال: نَصبت "لا" النافية للجنس الاسم، ورفعت الخبر؛ قياساً على "إنَّ"؛ لمشابهتها إياها في التوكيد؛ فإن "لا" تأتي لتأكيد النفي، كما
تأتي "إنَّ" التوكيد الإثبات.
والقياس بهذا المعنى واقع من العرب أنفسهم، ويذكره النحوي تنبيهاً على علة الحكم الثابت عنهم بالنقل الصحيح. وليس هذا الضرب من القياس داخلًا في موضوع هذه المقالات.
ثانيها: أن تعمد إلى اسم وضع لمعنى يشتمل على وصف يدور معه الاسم وجوداً وعدماً، فتعدّي هذا الاسم إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف، وتجعل هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة، ومثال هذا: اسم الخمر عند من يراه موضوعاً للمعتصَر من العنب خاصة، وما وضع للمعتصر من العنب إلا لوصف هو مخامرته للعقل وستره، فإذا وجد عصير من غير العنب يشارك المعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة للعقل؛ فإن من يقول بصحة هذا القياس يجعل هذا العصير من أفراد الخمر، ويسميه خمراً. تسمية حقيقية لغوية.
وإن شئت مثالاً آخر، فانظر في اسم السارق عند من يقول: إنه موضوع لمن يأخذ مال الأحياء خفية، فإنك تجد من ينبش القبور لأخذ ما على الموتى من أكفان، قد شارك من يأخذ أموال الأحياء في وصف أخذ المال خفية، ومقتضى صحة هذا الضرب من القياس أن تجعل اسم السارق متناولاً للنباش على وجه الحقيقة اللغوية، وتكون هذه الحقيقة قد تقررت من طريق القياس، لا من طريق السماع.
وهذا الضرب من القياس هو الذي ينظر إليه علماء أصول الفقه عند ما يتعرضون لمسالة "هل تثبت اللغة بالقياس؟ (1) ".
(1) من يرى أن القياس في اللغة على هذا الوجه غير صحيح يرى أن الخمر في لسان =
ثالثها: إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير، والنسب، والجمع، وأصل هذا: أن الكلمات الواردة في كلام العرب على حالة خاصة، يستنبط منها علماء العربية قاعدة تخول المتكلم الحق في أن يقيس على تلك الكلمات الواردة، ما ينطق به من أمثالها.
رابعها: إعطاء الكلم حكم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه؛ كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي؛ قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث، وكما أجاز طائفة حذف الضمير المجرور العائد من الصلة إلى الموصول متى تعين حرف الجرة قياساً على حذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ، فتقول: قضيتُ الليلة التي ولدتَ في سرور؛ أي: ولدت فيها، جاز لك أن تقول: هذا الكتاب الورقة تساوي درهماً؛ أي: الورقة منه بدرهم.
وهذا النوع من القياس، والنوع الذي قبله هما موقع النظر ومجال البحث في هذه المقالات، واخترت للفرق بينهما التعبير عن الأول بالقياس الأصلي، وعن الثاني بقياس التمثيل.
= العرب غير خاص بالمعتصر من العنب، بل يتناول المتخذ من تمر النخيل بمقتضى الوضع، فتكون حرمته ثابتة بنفس الآية {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائده: 90]، وإذا سلم اختصاص اسم الخمر في لسان العرب بالمعتصر من العنب، قال: حرمة المسكر من غير عصير العنب ثابتة بالقواعد الشرعية القطعية، والأحاديث الصحيحة النبوية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام".