المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(10)«دِرَاسَاتٌ فِي العَربيَّةِ وَتَاريخِهَا»

- ‌المقدمة

- ‌القياس في اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية

- ‌ اللغة:

- ‌ أصل نشأة اللغة:

- ‌ تأثير الفكر في اللغة:

- ‌ تأثير اللغة في الفكر:

- ‌ هل يمكن اتحاد البشر في لغة

- ‌ اللغة العربية لا تموت:

- ‌ اللغة في عهد الجاهلية:

- ‌ تأثير الإسلام في اللغة:

- ‌ فضل اللغة العربية:

- ‌ الحاجة إلى مجمع لغوي:

- ‌تمهيد

- ‌ الحاجة إلى القياس في اللغة:

- ‌ أنواع القياس وما الذي نريد بحثه في هذه المقالات

- ‌ القياس الأصلي:

- ‌ الحديث الشريف:

- ‌ القياس على الشاذ:

- ‌ القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر:

- ‌ سبب اختلافهم في القياس:

- ‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها:

- ‌ الاشتقاق من أسماء الأعيان:

- ‌ ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق

- ‌ قياس التمثيل:

- ‌ قياس الشبه وقياس العلة:

- ‌ أقسام علة القياس:

- ‌ أقسام قياس العلة:

- ‌ شرط صحة قياس التمثيل:

- ‌ مباحث مشتركة بين القياس الأصلي، والقياس التمثيلي - القياس في الاتصال:

- ‌ القياس في الترتيب:

- ‌ القياس في الفصل:

- ‌ القياس في الحذف:

- ‌ القياس في مواقع الإعراب:

- ‌ القياس في العوامل:

- ‌ القياس في شرط العمل:

- ‌ القياس في الأعلام:

- ‌ الكلمات غير القاموسية

- ‌حياة اللغة العربية

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌دلالة الألفاظ

- ‌ تأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية:

- ‌ أطوار اللغة العربية:

- ‌ فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها:

- ‌ حكمة تراكيبها:

- ‌ تعدد وجه دلالتها:

- ‌ تعدد أساليبها:

- ‌ طرق إختصارها:

- ‌ اتساع وضعها:

- ‌ إبداع العرب في التشبيه:

- ‌ اقتباسهم من غير لغتهم:

- ‌ ارتقاء اللغة مع المدنية:

- ‌ اتحاد لغة العامة والعربية:

- ‌ حياة اللغة العربية:

- ‌الاستشهاد بالحديث في اللغة

- ‌ ما المراد من الحديث

- ‌ هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب

- ‌ الخلاف في الاحتجاج بالحديث:

- ‌ وجهة نظر المانعين:

- ‌ وجهة نظر المجوزين:

- ‌ مناقشتهم لأدلة المانعين:

- ‌ تفضيل وترجيح:

- ‌موضوع علم النحو

- ‌ وجهات البحث النحوي:

- ‌التضمين

- ‌تيسير وضع مصطلحات الألوان

- ‌ أسماء الألوان

- ‌ القابل للتصريف من أسماء الألوان الساذجة:

- ‌ أسماء الألوان الساذجة غير القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء هيئات الأشياء المركبة من ألوان:

- ‌ أسماء الألوان المركبة القابلة للتصريف:

- ‌ أسماء الألوان المركبة غير قابلة التصريف:

- ‌ الأسماء المراعى في معانيها لون:

- ‌ أسماء إيجاد الألوان:

- ‌حول تبيسيط قواعد النحو والصرف والرّد عليها

- ‌ باب الإعراب:

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ الجملة:

- ‌ تسمية الجزأين الأساسيين:

- ‌ أحكام إعرابهما:

- ‌ الترتيب بين الموضوع والمحمول:

- ‌ المطابقة بين الموضوع والمحمول:

- ‌ متعلق الظرف وحروف الإضافة:

- ‌ الضمير:

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

- ‌ ملاحظات الإمام على الاقتراحات:

- ‌ الاقتراحات

- ‌ العلامات الأصلية للإعراب والعلامات الفرعية:

- ‌ ألقاب الإعراب والبناء:

- ‌ تسمية الجزأيين الأساسيين للجملة:

- ‌ أحكام إعرابها:

- ‌ المطابقة بين المحمول والموضوع:

- ‌ متعلق الظروف وحرف الإضافة:

- ‌ الضمير

- ‌ التكملة:

- ‌ الأساليب:

الفصل: ‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها:

به الكوفيون، فقالوا في جوابهم: إن المبالغة التي قوي بها المعنى في تلك الأبنية، جبرت ما نقصها من الشبه في اللفظ، فنقابل مشابهة اسم الفاعل للمضارع في اللفظ بزيادة المعنى الذي اختصت به أبنية المبالغة، فتحصل الموازنة والتساوي في طلب العمل من غير تفاضل.

ومن أسباب اختلافهم في القياس: اختلاف أنظارهم في الشاهد أو الشواهد التي تذكر ليقاس عليها: يختلفون في أمانة ناقلها، أو في صحة عربية قائلها، أو في وجوه فهمها وإعرابها. ومن لا يثق بأمانة الناقل للكلام، أو لا يسلم أن الكلام صادر ممن ينطق بالعربية الصحيحة، لا يقيم لذلك الكلام وزنًا، ولا يعول عليه في شيء من أحكام اللسان. وإذا تبادر إلى ذهنك في فهم الكلام وإعرابه وجه يفتح لك السبيل لأن تستنبط منه حكماً، وتقيم منه قاعدة، فقد يتبادر إلى ذهن غيرك في فهمه وإعرابه وجه يطابق أصلاً من الأصول الثابتة من قبل، فيخالفك في ذلك الحكم، ويراه خارجاً عن سنن القياس، ومبنيًا على غير أساس.

*‌

‌ القياس في صيغ الكلم واشتقاقها:

نلقي في هذا الفصل نظرة على القياس في المصادر والأفعال، واسم الفاعل واسم المفعول، وأفعل التفضيل والصفة المشبهة، وفعل التعجب والنسب والتصغير والجموع.

ولا تحسبني متعرضاً لهذه الأبواب بتفصيل، واضعاً يدي على كل حكم من أحكامها، منبهًا على ما يصح أن يقاس عليه، وما ينبغى أن تقف به عند حد السماع، وإنما هي كلمات أتناول بها بعض مباحثها، وأريك أن الله تعالى لم يجعل علينا في اللغة العربية حرجاً.

ص: 53

- المصادر:

للمصادر في بعض اللغات غير العربية علامة لفظية، أو علامتان لابد للمصدر أن يتصل بأحدهما؛ كعلامة:" en" في اللسان الألماني، وعلامة:"مك"، أو "مق" في اللسان التركي، أما الأصل الذي تلحقه العلامة في الألماني، أو إحدى العلامتين في التركي، فله صيغ تختلف في مقدار الحروف وأحوالها، فليس للمصادر في اللغة التركية صيغتان فقط، ولا في اللسان الألماني صيغة واحدة.

أما المصادر في اللغة العربية، فإنها تختلف كذلك اختلافاً كثيراً، غير أنها لا تمتاز بعلامة أو علامات خاصة كما هو الشأن في اللغتين: التركية والألمانية. ومما تمتاز به العربية في هذا الباب: أن مصدر فعل الواحد قد يجيء في صِيغَ متعددة، وربما بلغت هذه الصيغ تسعًا؛ كمصدر تَمَّ، أو عشراً؛ كمصدر لقي.

وقد بذل علماء العربية جهدهم في جمع معفرقها تحت مقاييس، وجاؤوا إلى هذه المقاييس من ناحية الماضي والمضارع، فقربوا مآخذها ما استطاعوا، وانقسمت المصادر بعد هذا ثلاثة أقسام:

أحدها: ما لا شبهة في صحة القياس عليه، نحو:"فَعْلَلَة" مصدراً للفعل الرباعي المجرد؛ كدحرج، وعربد، ونحو:"إفعال" مصدراً للفعل الرباعي المزيد؛ ككرم، ونحو:"تفعيل" مصدراً للفعل المضعَّف؛ كعَّلم، ونحو:"مفاعلة" مصدراً للفعل الرباعي أيضاً؛ كخاصم، ونحو:"افتعال" مصدراً للفعل الخماسي؛ كارتقى؛ ونحو: "تفعُّل" مصدراً لما جاء على تفعَّل كتكَّلم.

ص: 54

ثانيها: ما لا يُختلف في قصره على السماع؛ لقلة ما ورد منه في الكلام؛ كالمصدر الوارد على "فِعّال"؛ نحو: كَذَبَ كِذَّابا، أو الوارد على فعّيلي؛ نحو: الحثيثي للمبالغة في التحاث. أو ما جاء على فَعَلى؛ نحو: جَمَزَى، وقد طعن الأخفش على بشار في قوله:

والآن أقصرَ عن سُميَّة باطلي

وأشار بالوَجَلى عليَّ مشير

وقوله:

على الغَزَلى مني السلام فربما

لهوتُ بها في ظل مخضلَّةٍ زهر

وقال: لم يسمع من الوجل والغزل فَعَلى، وإنما قاسهما بشار. وليس هذا مما يقاس، إنما يعمل فيه بالسماع.

ثالثها: ما جرى الخلاف في جواز القياس عليه؛ كطائفة من مصادر الفعل الثلاثي، نحو:"فَعْل" مصدراً للفعل المتعدي؛ كشرب، وفهم، ونصر، ونحو "فعَل" مصدراً لفَعِلَ اللازم؛ كفرح، ونحو "فُعُول" مصدراً لفعَل اللازم؛ كقعد، وغدا.

وسبب الخلاف في القياس: أن جمهور النحاة وجدوا لكل واحد من صيغ هذه المصادر أمثلة كثيرة تجري عليه بنظام، فذهبوا فيها مذهب القياس.

ورأى آخرون أن أفعالاً كثيرة مما يتحقق فيه شرط تلك المقاييس قد وردت مصادرها في صيغ خارجة عن القياس، فصرفتهم كثرة انتقاض هذه المقاييس عن الاعتداد بها؛ وذهبوا إلى أن مصادر الأفعال الثلاثية إنما يرجع فيها إلى السماع.

ثم إن الذين ذهبوا بها مذهب القياس فريقان: فريق يجعلها مقاييس لمصادر الأفعال التي لم تسمع لها مصادر، أما ما سمع له مصدر مخالف

ص: 55

للقياس، فلا يصاغ له مصدر على مقتضى القياس (1). وفريق آخر أفسح طريق القياس حتى للأفعال التي سمعت لها مصادر مخالفة له، فيكون للفعل الواحد مصدران: مصدر ثابت بطريق السماع، ومصدر ثابت بطريق القياس.

ووجهة نظر الفريق الأول: أن القياس في اللغة أمر دعت إليه الحاجة، فيؤخذ به على مقدارها، والأفعال التي سمعت لها مصادر لا حاجة بها إلى القياس، قال أبو علي الفارسي: إن الغرض مما ندؤنه من هذه الدواوين إنما هو ليلحق من ليس من أهل اللغة باهلها، وشمتوي من ليس بفصيح ومن هو فصيح، فإذا ورد السماع بشيء، لم يبق غرض مطلوب، وعدل عن القياس إلى السماع (2).

ووجهة نظر الفريق الثاني: أن الأفعال التي من شأن مصادرها أن تصاغ في أوزان خاصة، قد استحقت أن تكون لها مصادر على هذه الأوزان بحكم القياس، فورود مصد ر الفعل من طريق السماع على غير قياس، لا يسلب وصف العربية الصحيحة عن مصدره الذي يصاغ على مقتضى القياس.

- فَعْلَة:

إذا قصد من المصدر الثلاثي الوحدة، أُتي به على وزن فَعْلة، ولو لم يكن المصدر على وزن فَعْل، فعقول في المرة من الرمي: رَمية، ومن الجلوس: جَلسة، ومن الذهاب: ذَهبة، ومن الإتيان: أتية؛ أما ما زاد على الثلاثي، فبإلحاق التاء له وهو بحاله، فتقول: إكرامة، وارتقاعة، واستدراجة، تريد:

(1) هذا مذهب سيبويه والأخفش.

(2)

ابن جني في تصريف أبي عثمان المازني.

ص: 56

واحدة من الإكرام والارتقاء والاستدراج، هذا هو القياس. ونقل أنهم قالوا: إتيانة ولقاءة، وهذا من الشاذ الذي لا يصح القياس عليه إلا أن يضطر إليه شاعر، فيرتكبه على قبح فيه.

قال الليث: لا تقل: إتيانة واحدة إلا في اضطرار شعر قبيح؛ لأن المصادر كلها إذا جعلت واحدة، ردت إلى بناء "فَعْلة"، وذلك إذا كان الفعل منها على فَعَل، أو فَعِل (1).

- الأفعال:

إذا كان بين نوع من الأفعال ووزن من أوزان المصادر تلازم في جميع المواضع، أو في أغلب الأحوال؛ بحيث لا يتخلف أحدهما عن الآخر إلا في النادر الذي لا يمنع من تقرير القوانين العلمية، صح لك أن تستدل بأحدهما على الآخر، فلك أن تستدل بالفعل الوارد في وزن "استفعل" أو "يستفعل " - مثلاً - على أن صيغة مصدره "استفعال"، كما يصح لك أن تستدل بالمصدر الوارد في صيغة استفعال على أن الماضي استفعل، والمضارع يستفعل، دون أن تتوقف على السماع.

فإن كان اللزوم من جانب الفعل وحده؛ كأن يكون لنوع من الأفعال وزن واحد من المصادر، نحو "فَعَل" المتعدي؛ كنصر، فوزن مصدره: فَعْل لا غير، ولكن وزن فَعْل لا يختص بمصدر فَعَل، بل يكون لمصدر فَعِل أيضاً؛ نحو: فهم، فلا تستطيع إذن أن تستدل بمصدر ورد في وزن فَعْل على فعله الماضي أو المضارع، إذ لا تدري كيف تنطق بالفعل، وهو محتمل لأن يكون

(1)"لسان العرب" في مادة (أتي).

ص: 57

من باب نصَر، أو فهِم.

وإذا قيل لك: هل تستدل بالمضارع على الماضي الثلاثي، أو بالماضي الثلاثي على المضارع؟ أمكنك أن تستبين الجواب مما كنا بصدد بيانه، فتنظر في وجه التلازم بين وزني الماضي والمضارع، فإن كان بين الوزنين - تلازم ولو على وجه الأغلبية الكافية لتقرير القواعد؛ مثل: التلازم الحاصل بين "فعِل" غير حلقي العين أو اللام، كعِلم وفهِم، ومضارعه-؛ فإن مضارعه لا يأتي إلا على وزن يفعَل، ويفعَل أيضاً متى كان غير حلقي العين أو اللام، لا يكون ماضيه إلا على وزن "فعِل"، فإذا سمعتهم ينطقون بمضارع النوع الذي وصفنا، ولم تسمعهم كيف نطقوِا بفعله الماضي، فلك أن تقيسه على أمثاله، وتصوغه على مثال: حذِر يحذَر.

فإن كان اللزوم من ناحية واحدة؛ كان يكون من ناحية الماضي فقط؛ نحو: "فعُل" - بضم العين - فإن مضارعه لا يأتي إلا على وزن "يفعُل"- بضمها أيضاً-، صح لك الاستدلال بالماضي على المضارع؛ لأن المضارع في هذا الوزن لا يتخلف عن الماضي، ولا يصح لك الاستدلال بالمضارع على الماضي؛ لأن وزن يفعُل لا يختص بالماضي المضموم العين، بل يأتي مضارعاً لفعَل المفتوح العين؛ نحو: نصَر وكتَب.

فإذا سمعتهم ينطقون بفعل ماض من باب فعُل، ولم تسمعهم ينطقون بمضارعه، فلك أن تقيسه على أمثاله، وتصوغه على مثال: يسهُل ويجزُل.

وكذلك يكون الحكم في الأفعال الرباعية؛ نحو: أكرم، والخماسية؛ نحو: اصطفى، والسداسية؛ نحو: استقبل، فإن كلاً من فعلها الماضي وفعلها المضارع لا يأتي إلا على وجه واحد، فلك أن تستدل بأحدهما على الآخر،

ص: 58

فيغنيك الماضي عن سماع المضارع، والمضارع عن سماع الماضي.

فإن كان الفعل الماضي من باب "فعَل" - بفتح العين- فهذا يأتي مضارعه في وزن يفعُل تارة، نحو نصَر ينصُر، ويأتي في وزن يفَعَل تارة أخرى نحو عدَل يعدِل، وأمثلة كل من هذين الوزنين كثيرة، ومقتضى اختلاف حال المضارع الآتي ماضيه من باب "فعَل" أن لا يكون الماضي دليلاً على المضارع، بل إذا ورد ماض من "فعَل"، توقفنا في صوغ مضارعه على السماع، ولكنا نرى بعض علماء العربية يصرح بأنه إذا لم يسمع لفعل جاء على وزن "فعَل" فعل مضارع؛ بحيث لم يدر كيف نطق به العرب، فللمتكلم الخيار في أن يصوغه مضموم العين، أو مكسورها، إلا أن يكون حلقي العين أو اللام، فيتعين الفتح.

قال صاحب "المصباح" في خاتمة كتابه، وهو يتكلم على تصريف "فعَل" المفتوح العين: أما المضارع إن سمع فيه الضم أو الكسر فذاك، وإن لم يسمع في المضارع بناء، فإن شئت ضممت، وإن شئت كسرت، إلا الحلقي العين أو اللام. فالفتح للتخفيف، وإلحاقاً بالأغلب.

وقال الرضي في "شرح الشافية" وهو يتكلم على مضارع فعَل أيضاً: "وتعدى بعض النحاة، وهو أبو زيد، وقال: كلاهما (الضم والكسر) قياس، وليس أحدهما أولى به من الآخر، إلا أنه ربما يكثر أحدهما في عادة ألفاظ الناس حتى يطرح الآخر، ويقبح استعماله، فإن عرف الاستعمال، فذاك، وإلا، استعملا معاً؛ وليس على المستعمل شيء (1) ". ونظر بعضهم إلى أن

(1) هذا ما اختاره أبو حيان.

ص: 59

الأكثر في مضارع فعَل الكسر، فجعل الكسر هو القياس (1).

ومن الصيغ المختلف في القياس عليها صيغة: "أفعلَ"؛ أعني: الفعل الثلاثي الذي تدخل عليه همزة النقل، فتعديه إلى مفعول واحد إن كان لازمًا؛ أو إلى مفعولين إن كان متعدياً إلى مفعول واحد، أو إلى ثلاثة مفاعيل إن كان متعدياً إلى مفعولين.

رأى بعض علماء العربية أن باب أفعلَ كله سماعي؛ ولا يدخل شيء منه في دائرة القياس. وذهب آخرون إلى أن دخول الهمزة على اللازم ليتعدى إلى مفعول واحد، قياسي؛ نحو: جلس وأجلسته، فإن كان في أصله متعدياً إلى واحد، فدخول الهمزة عليه سماعي؛ نحو: لبس الثوب وألبسته إياه. وذهبت طائفة إلى أن دخولها على اللازم أو المتعدي إلى واحد مقبول في القياس، وزاد الأخفش أن جعل دخولها على المتعدي إلى اثنين ليتعدى إلى ثلاثة صحيح في القياس؛ وأعطى هذا الحكم لظن، وحسب، وخال، وزعم، وإن لم يرد به سماع.

وسبب اختلافهم: أن من نظر إلى أفعال كثيرة تدور في كلامهم، ولم يدخلوا عليها همزة النقل؛ نحو: ظرف، وضرب، ومدح، فلم يقولوا: أظرفه، ولا أَضرب زيداً عمراً؛ أو أمدحه فلاناً، جعل ذلك دليلاً على أنهم لم يقصدوا لجعله قياساً مطرداً، فوقف بهذه الصيغة عند حد السماع.

ومن نظر إلى أن استعمال همزة النقل لتعدية اللازم بالغ في الكثرة الكفاية لإجراء القياس، وأن كثرة دخولها على المتعدي لواحد دون ما يكفي

(1) هذا مذهب الفراء.

ص: 60

للقياس، فرق بين النوعين، فجعل دخولها على اللازم مقيساً، ووقف دخولها على المتعدي إلى واحد على السماع.

ومن نظر إلى أنها تدخل على اللازم والمتعدي إلى واحد بكثرة، وهذه الكثرة المتحققة في النوعين تكفي في نظره لإباحة القياس، سوَّى بينهما، وجعلهما في صحة القياس سواء. وأما إجازة الأخفش لدخولها على الفعل المتعدي لمفعولين، فالحاقا لظن وأخواتها، باعلم وأرى؛ لتشابههما في العمل والدلالة على معنى قائم بالقلب.

ونظر السهيلي في معاني الأفعال، فقرر مذهباً رابعاً، وهو: أن كل فعل يكتسب منه الفاعل صفة في نفسه لم تكن فيه قبل الفعل، نحو: قام وقعد وجرى وفهم، صح لك أن تقول فيه: أفعلته، فإذا قلت: أقمته أو أقعدته أو أفهمته، فمعناه: جعلته على صفة القيام أو العقود أو الفهم، ولا تقول: أمدحته زيداً، أو أشتمته إياه، أو أذبحته الكبش؛ لأن العامل في هذه الأفعال لم يصر منها على هيئة لم يكن عليها، ولم يحصل له في ذاته وصف باق.

ومن الصيغ المختلف في إجرائها مُجرى المقيس عليه: وزن "فعَّل"، وقد سمع هذا الوزن في الفعل اللازم ليتعدى إلى واحد، نحو حسَّن وقبَّح وجدَّد، وفي الفعل المتعدي إلى واحد يتعدي إلى مفعولين، نحو ملَّك وبلَّغ وركَّب، ولم يستعمل التضعيف في المتعدي إلى اثنين ليتعدى إلى ثلاثة.

اختلف علماء العربية في هذه الصيغة، فرأى بعضهم أن تضعيف الفعل ورد بكثرة تقتضي فتح باب القياس، فتجاوز به حد السماع، وتدبر آخرون في كلام العرب، فوجدوهم يُعَدّون أفعالاً بهمزة النقل؛ نحو: أضحكه وأضجره وأظهره وأزهقه وأرشده وأتحفه، وأشبعه وأصلحه وأغضبه، ويعدّون أفعالاً

ص: 61

أخرى بالتضعيف، نحو شرَّفه وقدَّسه وحلَّمه ونظَّفَه، ويجمعون في أفعال بين همزة النقل والتضعيف، نحو ذكزَه وأذكره، وأضافه وضيَّفه، وشرَّده وأشرده، وطيبَّه وأطابه، وبعَّده وأبعده، وفسَّده وأفسده، وظمَّأه وأظماه، وجوَّعه وأجاعه، فقالوا: يؤخذ في كل فعل بما ورد عن العرب، وقد بين علماء اللغة في كل فعل الوجه الوارد في الاستعمال من تعديته بهمزه النقل، أو بالتضعيف، أو بالوجهين كليهما، فيجب اتباع ما سمع من العرب، فإن لم نعلم له وجهًا من هذين الوجهين في كلام العرب، لم يستقم لنا طريق القياس، وليس لك أن تقول: ظرَّفته؛ أي: جعلته ظريفًا كما ساغ لك أن تقول: حلَّمته: إذا جعلته حليماً، ولا ضخَمتُه؛ أي: جعلته ضخماً، كما ساغ لك أن تقول: فخَّمته؛ أي: عظمته.

ومن الصيغ المحتملة لأن تكون موضع اختلاف علماء العربية في إعطائها حكم القياس: "انفعل" الآتي مطاوعاً لفَعل الثلاثي، فقد عده بعضهم من قبيل ما يسمع، ولا يقاس عليه (1).

ونحا به آخرون نحو ما يقاس عليه، وقالوا: إن الباب في مطاوع فعَل هو: انفعل؛ نظراً إلى كثرة ما ورد من هذا التصرف في الكلام الفصيح.

ومن نظر في كلام العرب، وجد لصيغة انفعل باباً هو مجيئه مطاوعاً لما كان على "فعَل" من الأفعال التي يتصور فيها العلاج والتأثيرة نحو: فتحته فانفتح، وقسته فانقاس، وليس من بابه الأفعال الرباعية؛ نحو: أخرجته فانخرج، وأصلحته فانصلح، ولا الأفعال الثلاثية التي لا علاج فيها ولا تأثيرة نحو:

(1)"شرح الرضي للشافية".

ص: 62

فقدته، أو وجدته، أو علمته؛ لأن فقدته بمنزلة قولك: لم أجده، ووجدته بمنزلة قولك: حصل الشيء، وعلمته في معنى: حصلت صورته في نفسك، وليس في عدم وجودك للشيء، أو حصوله بين يديك: أو تقرر صورته في ذهنك علاج منك حتى يصح لك أن تأتي له بالمطاوع الذي هو بمعنى قبوله للفعل.

فمن قصر "انفعل" على مطاوعة "فعَل" الذي يكون فيه علاج وتأثيرة نحو فصلته فانفصل، وخدعه فانخدع، وذهب إلى أن هذا هو بابه المقيس، فقد أصاب في الاجتهاد، وأما ما ورد من قولهم: أطلقته فانطلق، وأزعجته فانزعج، وأفردته فانفرد، فموقوف على السماع.

ويذهب بعض فلاسفة العربية إلى أن ما جاء من هذا القبيل محمول على تقدير أن العرب نطقوا بالفعل الثلاثي، ثم استغنوا عنه بالفعل الرباعي، فنحو: انطلق جاء مطاوعاً لذلك الفعل الثلاثي المقدر، ولم يقصد إلى أن يكون مطاوعاً لأطلق، وهذا الوجه ظاهر فيما ورد فعله الثلاثي على قلة؛ نحو: انغلق، فقد ورد في استعمال قليل غلق بمعنى: أغلق.

- افتعل:

ومن الأفعال المزيدة: "افتعل"، وهذا الوزن يأتي مرادفاً لفعله الثلاثي اللازم، نحو رقي وارتقى. وعدا عليه واعتدى. أو مرادفاً للمتعدي نحو خلسه واختلسه، وحازه واحتازه، وصاده واصطاده. ولا خلاف في أن هذا النوع سماعي، فليس لك أن تجيء إلى فعل ثلاثي لازم أو متعد، وتصوغ منه فعلاً في وزن افتعل موافقاً له في لزومه أو تعديه. ومن أجل هذا حكموا على أن احتار بمعنى: حار، واقتطف بمعنى: قطف، خطأ، حيث لم يرد أن

ص: 63

العرب تكلموا به.

وقد يأتي افتعل مطاوعاً لفعل ثلاثي متعد. نحو: جمع القوم فاجتمعوا، وشوى اللحم فاثشوى، وهز الشجرة فاهتزت، ورد الشيء فارتد، وزاده فازداد، ورفعه فارتفع، وستره فاستتر. أو مطاوعاً لفعل رباعي؛ نحو: أنهضته فانتهض. وهذا ما يحتمل أن يكون مقيساً، ولكن علماء العربية يقفون به عند حد السماع. فليس لك أن تقول: غرسته فاغترس، ولا مسحته فامتسح. كما لا يسوغ لك أن تقول: أفسدته فافتسد. ولا أجلسته فاجتلس.

* باب المغالبة:

ومن المحتمل لأن يكون موضع قياس: الفعل الماضي، والفعل المضارع يصاغان لمعنى المغالبة. فإن الماضي يرد في وزن فَعَل. والمضارع في وزن يفَعُل، فتقول: كارمني فكرَمته؛ أي: غلبته في الكرم. أو إن كارمني كرُمه؛ أي: أغلبه في الكرم. وهكذا تقول: خاصمني فخصمته وأخصُمُه. وفاخرني ففخَرته وأفخُره. وشاتمني فشتمته وأشتُمه.

ولكن علماء العربية - مع اعترافهم بكثرة ما ورد منه - يقصرونه على السماع.

قال سيبويه في "الكتاب": "ليس في كل شيء يكون هذا. ألا ترى أنك لا تقول نازعني فنزَعته أنزُعه. استغني عنه بغلبته"، وقال الرضي في "شرح الكافية":"ليس باب المغالبة قياساً بحيث يجوز لك نقل كل لفظ أردت إلى هذا الباب".

وإذا لم يصل باب المبالغة أن يكون مقيساً. فمعنى هذا: أنك لا تأخذ من صيغة المفاعلة ماضيًا ومضارعًا لمعنى المغالبة على وجه القياس. أما

ص: 64

إذا ورد فعل ماض للمغالبة، فلك أن تتكلم بمضارعه في وزن يفعُل من غير توقف على سماع، وذلك معنى قول بعض علماء الصرف: ومن القياسي ضم عين للمضارع في باب المغالبة.

- اسم الفاعل والصفة المشبهة:

يتحد اسم الفاعل والصفة المشبهة بأن كلاً منهما يدل على ذات وصفة قائمة بها، ويفترقان في أن اسم الفاعل يدل على حدوث تلك الصفة، والصفة المشبهة تدل على ثبوتها، والأصل فيما يقصد منه الحدوث: أن يجيء على وزن فاعل، نحو: كاتب، وعالم، أو يفتتح بميم مضمومة، ويكسر ما قبل آخره، نحو مُكرِم، ومُخترِع، ومُستكشِف، ومن ثم اشتهر ما يجيء في هذه الأوزان باسم الفاعل، والأصل فيما يدل على الثبوت: أن يجيء على نحو فَعْل؛ كضَخْم، وفَعَل؛ كحَسَن، وفَعِل كفَرِح، وأفعلَ؛ كأبيض، وفَعيل؛ كجميل، وفَعْلان؛ كعَجْلان، ولذلك يدعى ما يجيء على هذه الأوزان بالصفة المشبهة.

ومن سعة بيان اللغة العربية: أنك إذا أردت من الصفة المشبهة إفادة؛ حدوث الوصف، حولتها إلى صفة "فاعل"؛ فتقول في نحو: حسن وعفيف وشريف وميت وضيِّق ومريض وجواد: حاسن، وعافّ، وشارف، ومائت، وضائق، ومارض، وجائد، وتقول ذلك قياساً لا تتقيد فيه بسماع.

وأوزان الصفة المشبهة عند علماء العربية سماعية، فليس لك أن تصوغ وصفاً على نحو فعْل، أو فعَل، أو فَعْلان، أو أفعل دون أن ينطق به العرب، ما عدا فعيلًا، فقد ذهب بعضهم إلى صحة القياس عليه؛ لكثرة ما ورد فيه من الألفاظ، وينبغي أن يقيد هذا المذهب بالمعاني التي يراد منها الثبوت،

ص: 65

ولم تدر كيف تكلم فيها العرب بالاسم الدال على الذات وصفتها، وبهذا المذهب تستوفي الأفعال صفاتها المشبهة، ولا يبقى فعل من غير أن يكون هناك اسم يدل على الوصف والذات التي قام بها.

ويقوم مقام اسم الفاعل: فعَّال، ومِفْعال، وفَعول، وفَعيل، وفَعِل، وهذه المسماة عندهم بأمثلة المبالغة، نحو نطار، ومِنْحار، وصَبور، وعليم، وحَذِر.

ومن علماء العربية من يذكرها، ويضرب لها الأمثال، ويبسط أو يوجز في الخلاف الجاري في إعمالها عمل اسم الفاعل، ولا يأتي على ناحية القياس في اشتقاقها بعبارة صريحة، ومنهم من يصرح بصحة القياس في بناء فعَّال (1) خاصة، ووجه هذا المذهب: أن صيغة فَعَّال وردت في مقدار من الكلم الفصيح يكفي لصحة القياس عليه.

ومما يستعمل للمبالغة في وصف الفاعل فِعِّيل، نحو "خِرِّيج" بمعنى: أديب، وقد صاغ فيه العرب ألفاظاً كثيرة، ولكن علماء العربية يقفون به عند حد السماع، وهذا ابن دريد قد سرد له في "الجمهرة" أمثلة كثيرة، ثم قال:"اعلم أنه ليس لمولّد أن يبني فِعّيلًا إلا ما بنته العرب، وتكلمت به، ولو أجيز ذلك، لقلب أكثر الكلام، فلا تلتفت إلى ما جاء على فِعِّيل مما لم تسمعه إلا أن يجيء فيه شعر فصيح".

- اسم المفعول:

يصاغ اسم المفعول من الفعل الثلائي على وزن "مفعول"، فإن زاد الفعل

(1)"روح الشروح على القصود".

ص: 66

على ثلاثة أحرف، جرى اسم المفعول مجرى اسم الفاعل، في افتتاحه بميم مضمومة، وخالفه بفتح آخره بدل الكسر.

ذلك قياس اسم المفعول الذي لا يختلف في صحته، فماذا ورد فعل متصرف، فلك أن تصوغ منه اسم مفعول، لا تتوقف في ذلك على سماع، ونقل عن الرماني: أنه قال: "لا يقال من "نفعَ" اسم مفعول، والقياس يقتضيه"، ولم ير أبو حيان وجهاً للتقيد في مثل هذا بالسماع، فقال: إن نفع كضرب، فكما يقال في مفعول ضرب: مضروب، يقال في مفعول نفع: منفوع.

واستعمل العرب للدلالة على المفعول صيغاً أخرى، ومن هذه الصيغ ما لا خلاف في قصره على السماع؛ لقلة ما ورد منه، وهي فِعْل كذِبْح، بمعنى: مذبوح، وفَعَل؛ كقنص بمعنى: مقنوص. وفعالة كلقاطة بمعنى: ملقوط. ومنها ما اختلفوا في جعله مقيساً، وهو فَعيل كقتيل بمعنى: مقتول، وصريع بمعنى: مصروع. فوقف به فريق عند حد السماع، وفتح طائفة باب القياس لنوع منه، وهو ما لم يجئ من فعله فعيل بمعنى فاعل، فيقال بمقتضى هذا المذهب: حسيد بمعنى محسود، وضهيد بمعنى مضهود؛ حيث لم يجئ فعيل فيه بمعنى فاعل، ولا يقال: نصير بمعنى منصور، أو عليم بمعنى معلوم، أو رحيم بمعنى مرحوم؛ لأنه جاء نصير بمعنى ناصر، وعليم بمعنى عالم، ورحيم بمعنى راحم.

وسبب الخلاف: أن "فَعيلاً" ورد بمعنى مفعول في ألفاظ كثيرة، والفريق الأول يعترفون بهذه الكثرة؛ ولكنهم رأوها غير كافية لفتح باب القياس، ورأتها الطائفة الثانية كافية لصحة القياس، ولكن قصروا القياس على ما لم يجئ من فعله فَعيل بمعنى فاعل؛ حذراً من التباس وصف المفعول بوصف الفاعل،

ص: 67

وليس على من يأخذ بهذا المذهب حرج؛ فإنه قائم على مراعاة الكثرة التي هي شرط القياس، مع اجتناب اللبس الذي يختل به فهم الغرض من الكلام.

- فعل التعجب وأفعل التفضيل:

للتعجب صيغتان هما: ما أفعلَه، وأفعلْ به، وللتفضيل صيغة هي: أفعلُ، وهذه الصيغ مطردة في كل فعل استوفى الشروط المعتد بها عند علماء العريية. ومن الشروط المختلف فيها: اختصاص هذه الصيغ بالأفعال الثلاثية، تمسك الجمهور بهذا الشرط، ولم يجيزوا اشتقاق فعل التعجب، ولا أفعل التفضيل من الأفعال الرباعية فما فوقها، ووردت ألفاظ عن العرب أخذوها مما فوق الثلاثي، فحملها الجمهور على الشذوذ، ووقفوا بها حد السماع، ووجهة نظر الجمهور: أن صيغ التعجب والتفضيل لا تحتمل أكثر من ثلاثة أحرف مزادة عليها الهمزة التي هي أول ما تمتاز به الصيغة، فإن كانت حروف ما زاد على الثلاثي كلها أصول، نحو عَرْبد، لزم متى اشتق منه التعجب أو التفضيل إسقاطُ حرف أصلي من بناء الكلمة، وفي ذلك خلل لا داعي إلى ارتكابه. وهناك طرق أخرى للدلالة على التعجب أو التفضيل؛ نحو: ما أشد عربدته، أو: هو أشد عربدة، وإن كانت حروف ما زاد على الثلاثي مزيدة؛ نحو: انفعل، أو افتعل، أو استفعل، فهذه الأحرف يؤتي بها في الفعل لمعان، ومتى حذفت هذه الحروف من صيغ التعجب أو العفضيل، ضاعت تلك المعاني المقصود إفادتها للمخاطبين.

وخالف الجمهورَ في هذا الشرط ثلاثُ طوائف:

1 -

طائفة تجيز أخذ التعجب والتفضيل من (أفعل) الذي تكون همزته في أصل وضعه؛ نحو: أظلم الليل، دون ما تكون همزته للنقل؛ نحو:

ص: 68

أجلس، ووجهه: أن الهمزة في نحو أظلم لم تدل على معنى خاص، فلا ينقص بحذفها شيء من المعنى المراد من أصل الفعل.

2 -

طائفة تجيز أخذهما من "أفعل"، لا فرق بين ما تكون همزته في أصل وضعه، وما تأتي همزته لتعديته إلى مفعول لا يتعدى إليه من قبل، واعتمد هذا المذهبُ على أنه سمع من العرب أخذهما من "أفعل" بكثرة تكفي لأن تجعله موضع القياس؛ نحو: هو أعطاهم للدنانير، وأولاهم للمعروف، وأكرمهم من كل أحد.

3 -

طائفة تجيز أخذهما من كل الأفعال الثلاثية المزيدة؛ كانفعل، واستفعل، ونحوهما، ويرى هؤلاء أن تلك المعاني المستفادة من الحروف الزائدة يمكن الدلالة عليها بعد حذف تلك الحروف بقرائن لفظية أو حالية.

وذكروا في شروط صوغ التعجب وأفعل التفضيل: أن يكون الفعل مما يقبل المفاضل، وقالوا: لا يقال: ما أموته؛ لأن الموت لا يقع به التفاوت، ومقتضى هذا التعليل صحة أن يقال: ما أموته، متى جاء على وجه يحتمل التفاضل؛ كأن يكثر في بلد الموت، فتقول: ما أموتَ أهلَ هذا البلد، أي: ما أكثر موتهم، ولا يبقى سوى أن ما أموته لم يسمع من العرب بوجه، فنرجع إلى حكم الأفعال التي تحققت فيها شروط أخذ فعلي التعجب واسم التفضيل، ولم يبلغنا أن العرب نطقوا بهما، أو بأحدهما على طريق خاص، وسنمر بهذا البحث بعد صفحات قليلة - إن شاء الله -.

وذكروا في شروط صوغها: أن لا يكون الفعل مبنياً للمجهول، وهذا في حال ما يحصل به لبس؛ نحو: ما أضرب زيداً، فإنه يسبق إلى الذهن أن التعجب من وصف الفاعل، لا من وصف المفعول، فإن كان القصد من

ص: 69

التعجب واضحاً؛ كان تقول: ما ألبسَ هذا الثوبَ، تتعجب من كثرة لبس صاحبه له، فذلك ما يراه بعض الأئمة (1) قياساً سائغاً؛ اعتماداً على أن له أمثلة متعددة وردت في كلام العرب، نحو: ما أشهره، وما أخصره، ومن أمثالهم:(أشغل من ذات النِّحْيين).

- اسم الآلة:

يصاغ من الفعل اسم للآلة التي يعمل بها، ويجيء على وزن مِفعَل؛ نحو: مِخْيَط، ومِفْعَلة؛ نحو: مِطرَقة، ومِفعال؛ نحو: مفتاح، وأورد صاحب "المفصل" هذه الأوزان الثلاثة، وقال: هذا قياس مطرد في جميع الأفعال الثلاثية.

ووجه اشتراط أن يكون الفعل ثلاثياً: هو أن الأفعال المزيدة يؤتي بها لمعان زائدة على أصل معنى الفعل، ووزن مفعل ومفعلة ومفعال لا يسع إلا ثلاثة أحرف، وهي أصول الفعل، فلو صيغ من المزيد اسم في أحد الأوزان الثلاثة، لفاتت المعاني التي تدل عليها الأحرف الزائدة في الفعل، وكذلك أخذه من الرباعي المجرد يستدعي حذف أحد حروفه، فيختل اللفظ، فإن ورد اسم الآلة من غير ثلاثي، فهو خارج عن القياس، فلك أن تستعمله كما استعمله العرب، وليس لك أن تقيس عليه ما لم يرد استعمال صحيح.

وصرح بعض الكاتبين في الصرف باشتراط أن يكون الفعل متعدياً، ولعلهم نظروا إلى أن أكثر ما ورد منه اسم الآلة الأفعال المتعدية، ونحن نجد في أمثلة اسم الآلة ما هو مصوغ من فعل لازم؛ نحو: معراج ومعرج

(1) ابن مالك في "التسهيل".

ص: 70

للسّلم، ونحو مِرقاة للدرجة، ومن استأنس بإهمال كثير من علماء الصرف لشرط التعدي، واقتصارهم على شرط أن يكون الفعل ثلاثياً، وذهب إلى صحة اشتقاق اسم الآلة من الأفعال اللازمة عند الحاجة، لا نراه ذاهبًا مذهباً بعيداً، فلو وضعت آلة للسَّباحة، وبدا لجماعة أن يسموها مِسبَحة، أو مِسبَحاً، لم يكونوا - فيما نراه - مخطئين.

- مَفعَلَة:

يشتق العرب للمكان الذي يكثر فيه شيء اسماً من ذلك الشيء على وزن مَفْعَلَة، فقالوا: أرض مَأْبَلَة، أي: ذات إبل، ومَأْسَدَة؛ أي: ذات أسود، وَمَسْبَعَة؛ أي: ذات سباع، وَمَبْطَخَة؛ أي: كثيرة البطيخ ومقثأة؛ أي: كثيرة القثاء، وقالوا للأرض كثيرة اللصوص: مَلصَّة، ولكثيرة الرمان: مَرْمَنة، ولكثيرة الخزان (1) مَخَزَّة.

وهذه الصيغة مما اختلف علماء العربية في القياس عليها، فمنهم من وقف به عند حد السماع، مع اعترافه بكثرة ما سمع منه، وفي كتاب "سيبويه" ما هو ظاهر في جواز القياس، فقد قال: في حديثه عن هذا الباب: "وليس في كل شيء يقال إلا أن تقيس شيئاً، وتعلم أن العرب لم تتكلم به". قال صاحب "المحكم" في حكاية كلام "سيبويه"؛ يعني: لم تقل العرب في كل شيء من هذا، فإن قست على ما تكلمت به العرب، كان هذا لفظه.

وممن صرح بصحة القياس فيه مُظهر الدين صاحب "شرح المفصل المسمى بالمكمل" إذ قال: اعلم أنهم إذا أرادوا أن يذكروا كثرة حصول شيء بمكان، وضعوا لها مَفعلة، وهذا قياس مطرد في كل اسم ثلاثي؛ كقولك:

(1) ذكور الأرنب.

ص: 71