الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالغ بعض البيانيين في الرفع من شأنه حتى جعل تقديم الكلمة عن موضعها لصحة السجع أو الفاصلة من وجوه البلاغة، ونبه الباقلاني على عدم استقامة هذا الوجه بالنسبة إلى الكتاب الحكيم؛ لأن صرف الكلمة عن مرتبتها في النظم؛ لتوافق شيئاً من محاسن البديع، نوع من التصنع الذي عابه علماء الفصاحة على المولدين، ثم إن صحة السجع إنما هي عذر يقيمونه لرفع الملامة في مخالفة ما يقتضيه السياق، وإذا ساعدتك نفسك على الاعتذار به في سجع أو قافية من كلام البشر، فلا تسمح لك بتقريره في كتاب الله الذي لا يعجزه أن يضع كل كلمة في منزلتها التي يستدعيها حال المعنى مع سلامة الفاصلة.
وأدرك كثير من المحررين اليوم أن المرسَل أوسع مذهباً في البيان، فعدلوا إلى طريقته في خطاب الجمهور، إلا إذا ساعدهم الطبع على السجع بسهولة كغيره من محاسن البديع.
*
إبداع العرب في التشبيه:
علم من صدر هذه المسامرة: أن الباعث على التشبيه أمر فطري، وهو قصور العبارة عن إيضاح المراد، لهذا لم يختص في أصل استعماله بالبلغاء من الناس، وتناولته الأطفال في حجور أمهاتهم، وأيضاً لم تتميز به لغة دون أخرى، بل فازت اللغات السافلة منه بنصيب؛ فإن بعض سكان أستراليا لا يوجد عندهم ما يؤدي معنى مستدير، فيقولون: مثل القمر، وجرى العرب في هذا المضمار إلى الغاية القصوى، ورموا في تشابيههم إلى أغراض أخرى وراء البيان والإيضاح، منها: القصد إلى مدح المشبه وتزيينه في عين السامع؛ لتنبسط نفسه إليه، وتتقوى رغبتها فيه حيث حوكي بصورة راقية في حقيقتها، أو حسنة
في وضعها، ومما ينبئ عليه التشبيه: الاهتمام بشأن المشبه به؛ لأن صانع التشبيه يلتفت أولاً إلى ما استودعه في مخيلته من الصور، فتخطر على مفكرته، وتتسابق إليها على حسب تكررها على ذهنه، وتوجه قلبه إليها، فإذا ضرب مثلاً عند الاستغناء عنه، أو اختاره دون غيره، مع مساواته له في تحصيل الغرض، أشعر بكثرة ملابسته له، وتردده على فكره، فلا غرو أن تستفيد من تشابيه الرجل مكان همته، وإلى أين تذهب نفسه في معالي الأمور أو أسافلها، ومن الخطأ الذي يعرض للأديب هنا: أن يجري في تشابيهه على ما يلابس خاطره، ويسبق إلى قريحته، ولا يراعي في ضرب المثل حال المخاطبين، وما هو معروف لديهم.
ثم إنهم لم يقتصروا في المشبه به على حد ما تقع عليه الحاسة، أو تدركه القوة العاقلة من الحقائق الثابتة، وتعدوا إلى ما تقدره قوة الخيال من المعاني التي لم يتحقق لها أثر في الوجود. ورأوا الفضل في التشبيه البسيط غير كبير؛ إذ لا مزية تظهر للشاعر في تشبيه الشجاع بالأسد، والعزيمة بالسيف، فترقوا في ذلك إلى انتزاع الهيئات المفصلة من المركبات في الواقع، أو بواسطة الخيال؛ كتشبيههم الزرع تتخلله شقائق النعمان وهو يميس أمام الرياح بكتيبة لباسها أخضر قد انهزمت، ومن بينها جرحى كسيت باثواب من الدماء، ولولا قوة مداركهم، ولطف تصرفها، ما رأيت فئة كثيرة من الشعراء يتواردون على تشبيه شيء واحد، فيسلك كل فرد منهم جهة لم يتعلق بها نظر غيره، كما بلغوا في تشبيه الهلال إلى ما يقارب السبعين وجهاً.
منها: قول شرف الدين بن الريان:
كأن الهلال نزيل السماء
…
وقد قارن الزهرة النيره
سِوارٌ لحسناءَ من عسجدٍ
…
على قفله وضعت جوهره
ومنها: قول بدر الدين محمد بن مكي:
كأن الشمس إذ غربت غريق
…
هوى في البحر أو وافي مغاصا
فأتبعها الهلال لدى غروب
…
بزورقه يريد لها خلاصا
فيمكنك أن تنظر إلى تشابيه الأمة وما يضربونه من الأمثال، وتجعلها عنواناً على إضاءة عقولهم، وشاهداً بالغاية التي تنفذ إليها بصائرهم؛ فإن المشبه به إذا كان نادر الحصول في الذهن، أو في ضمنه تفصيل كثير، صعب استطراده في غير موضع الحديث عنه، ولا يتمكن من قلادة التمثيل به إلى من كان له نظر واسمع في تخييل المعاني القاصية، وقوة فائقة في تأليفها مع ما يجانسها في شمل واحد. وكثيراً ما يصنع الأدباء التشابيه على بساط المساجلة لمجرد الرياضة، وإظهار البراعة في الالتفات من معنى إلى آخر، وإدخاله في نسق الحديث عن غيره بمناسبة لطيفة.
فالأدباء يختلفون في مراتب التشبيه، ويتفاوتون في الغوص على لطائفة؛ مثلما يختلف المصورون من أهل السياسة في تمثيل حال أمة في سعادتها أو شقائها - مثلاً -، أو حال دولة في اتحادها مع دولة أخرى أو معارضتها، ويتفاوتون فيما يضمنونه في ذلك التمثيل من النكت السياسية.
ولم تكفهم الإصابة في وجه الشبه والتحقيق فيه، فدعاهم لطف الذوق في التمثيل إلى التحفظ في موارده عما لا يلائم الغرض منه، ألا ترى الأصمعي كيف عاب في مجلس الرشيد قول النابغة:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها
…
نظر السقيم الى وجوه العُوَّدِ
فإن النابغة - وإن سدد الرمية إلى وجه الشبه -، لكنه أورده في صورة تقتضي تشبيه المحبوبة بالسقيم، وذلك مما يتخلى ذوق الأديب عن قبوله. ونظير هذا: أن يمثل المصور السياسي أمة في سعة رفاهيتها، وسعادة حريتها، فيرسم صوراً كريهة المناظر، تمرح بملابسها الفاخرة في رياض باسمة الأزهار، ويرمز إلى روح الأمن والاطمئنان باسطة أشعتها في صدورهم بانتظام سيرهم، والسكينة في حركاتهم، فهذا المثل كما رأيته مستوف للغرض الذي رسم من أجله؛ لأن السعداء بنعمة الحرية لا يجب أن تكون وجوههم مشرقة، وأعضاؤهم متناسبة، ولكن ما ارتكز في النفوس من إعظام الحرية، وشدة الشغف بها يخيل إليها أن من لبسوا رداءها، وتحلوا بزينتها، لابد أن تلقى على وجوههم نضرة النعيم، وتعلوها وضاءة لا يبصر الناظر معها إلا حسناً، فإذا شاهد إنسان الأحرار في صور كريهة، نقص إعجابه بالحرية، أو نازع المصور في عدم إتقانه لذلك التمثيل.
واتسع العرب في هذا الباب إلى أن قال المبرد في "الكامل": لو قال قائل: هو أكثر كلام العرب، لم يبعد.
وتفننوا فيه على حسب توغلهم في الحضارة، ومشاهدتهم للصور الغريبة، ولا جرم أن يجد الناظر في تشابيه أدباء الأمة ما يطلعه على نبذة من أحوالهم المدنية؛ فإن كثيراً من الأشياء يتعالى الأديب عن الحديث في شأنها. إذا ساقها إليك مساق التمثيل بها.
فمما يقرب معرفتك إلى هيئة لباس النساء في عهد ابن الرومي قوله يصف قوس الغمام:
يطرزها قوس الغمام بأصفر
…
على أخضر في أحمر وسط مبيض