الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية بلفظها العربي، ويأخذ بعد ذلك في بيانها باللسان الآخر.
وصرح الغزالي في كتاب "إلجام العوام" بحرمة ترجمة الآيات المتشابهات، واستدل على ذلك بأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها، ولكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها منها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربية، ولا يكون في العجمية كذلك، ومثل الفارسية غيرها من لغات الأعاجم.
*
تعدد أساليبها:
مما يشهد بارتقاء اللغة، وسعة غايتها في البيان: تعدد أساليبها، وكثرة طرق إفادتها؛ فإن العبارات إذا اختلفت في أساليبها تغاير ما تصوره في نفوس المخاطبين من المعاني، وإن كان الغرض واحداً، فصورة المعنى الذي يستفاد بطريق المجاز أو الكناية يغاير الصورة التي تؤدى بلفظ الحقيقة أو القول الصريح، بل الصورة التي يرسمها قولك: زيد كريم الطبع غير الصورة التي ينقشها قولك: زيد ذو طبع كريم، وإن اتحد أصل المراد من المثالين، وهو إثبات الكرم لطبع زيد، ولولا أن العبارات الواردة على غرض واحد مختلفة في صور معانيها، لم يظهر التفاوت والتسابق بينها في حلبة البيان.
وإذا قويت عارضة المتكلم في العربية، أمكنه أن يتصرف في الغرض الواحد، ويفرغه في أساليب مختلفة، كأن يلقيه في صورة تكلم أو خطاب أو غيبة يطابق به الحقيقة، أو يسلك به خلاف الظاهر على وجه الالتفات أو التجريد، أو ينشئ الطلب في صيغة الخبر، أو يحكي الخبر في صورة الانشاء، أو يدخل بعض كلمات في نظم الجملة؛ ليتقوى به نسجها، أو يفيد قيداً تتوفر به جزالة
معناها، وتارة يأتي بالألفاظ مساوية للمعنى المراد، ويفصلها على مقدار الحاجة، وريما كان إسقاطه لبعض الجملة أوقع في النفس، وأبعد عن اللغو، فيحذفه، وينبه على مكانه. ويعبر بلفظ مفرد إن شاء، أو مركب؛ نحو: سبقه، ووصل قبله، والمفرد إما مجرد من حرف الجر، أو موصول به؛ نحو: أخرجته، وخرجت به، أو يأتي بالمراد في سياق النفي أو الإيجاب؛ نحو: لم يشح بالتعليم، وسمحت نفسه به، أو يعبر عن الشيء وصفته بمركب إضافي، أو يركبهما على قياس النعت مع منعوته؛ نحو: يعجبني أكبر همتك، أو همتك الكبرى.
ثم إن الحاذق في عمل التمثيل هو الذي يمثل لك الحزين المتضاحك، والمستبشر المتباكي، كذلك الفصيح يبرز لك الجد في صورة الهزل، أو يكسو الهزل بلباس من الجد، ويلقي المدح في قالب الذم، ويسوق الذم في معرض المديح؛ كقولهم:"أرانيه الله أغر محجلاً"؛ أي: محلوق الرأس مقيداً. وقد ينحو نحو البراعة في الصناعة وإظهار القدرة على التانق في تأليف الكلام، فيشحنه بضروب الاستعارات، وفنون التشابيه، وغيرها من محاسن البيان التي لا يعقلها إلا الخاصة من الأدباء؛ كما فعل الحريري في "مقاماته"، أو يتخير ما كانت ألفاظه صريحة، ومعانيه واضحة يسهل مأخذها على كل من له إلمام باللغة، وذهن حاضر في الجملة، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف وطرق التعبير البالغة إلى غاية يقف دونها البيان.
ومن تنوع الأساليب إلى ما يفوق حد الوصف: أخذ كل شاعر وكاتب طريقة يعرف بها نظمه أو تحريره، حتى إذا تليت قصيدة لشاعر، أو رسالة لكاتب لا تعلم نسبتها إليه، وكنت عارفاً بطريقته، لم يشتبه عليك أنها من
إنشائه. يؤيد لكم هذا: أن خلف الأحمر كان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء، فيشبه كل شعر بقوله شعر من يصطنعه عليه، ويقال: إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم
…
فإني إلى قوم سواكم لأميلُ
هي له، وقال: أنا وضعت القصيدة التي أولها:
خيل صيام وخيل غير صائمة
…
تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجُما
ونسبتها إلى النابغة.
وروي أن الفرزدق أنتحل بيتاً من شعر جرير، وقال: هذا يشبه شعري.
وإذا نبغ كاتب كالجاحظ، أو شاعر كالمعريّ، وابتدع لنفسه أسلوباً راق في نظر أبناء عصره، أخذوا في محاكاته، واقتدوا بالعمل على منواله، فتتماثل تحريراتهم، ويتقرر لهم أسلوب جديد.
ونقل إلى المسامر بموت العربية (أن أساليبها واقفة عند غاية لا تتجدد)، ولم يصب المبلغ له ذلك شاكلة الصواب؛ فإن من ينظر في أساليب التحريرات الراقية اليوم يجد بينها وبين أساليب المتقدمين بوناً شاسعاً، فلو جئت إلى رجل تدرب على مطالعة هذه المحررات الحديثة، وأمليت عليه صحيفة من نسجها، وهو لا يعرف من أين صدرت، ولا متى نشأت، عقل على البديهة جدتها، ولم يرتَبْ في أنها من قبيل الصنع الذي ظهر به هؤلاء الكاتبون، كما لا يشك في معرفة ما يتلى من زبر الأولين، ويدرك لأول نظرة إنشاءها على الطراز العتيق.
والناقد لأصناف الكلام يفرق بين الإنشاء الحادث والعتيق، وإن كانت المعاني فيهما متماثلة، فلا يكن في ظنك أن الطريق المعرف للمنشآت الجديدة