الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول بعضهم: إن العرب أخذتها من الحبشة، ولن يجد دليلاً على ذلك؛ إذ يحتمل أن الحبشة هي التي أخذتها من العرب، أو تكلم بها الفريقان على سبيل الاتفاق.
*
ارتقاء اللغة مع المدنية:
يعلم كل من له حظ من تعاليم هذه اللغة أن موضوعاتها لم تقف عند الحد الذي انتهت إليه قبل الإسلام، ولا في زمن نزول الوحي، فكثير من الألفاظ وقع التصرف فيها، فنقلت إلى شرائع ومعان لا تعرفها الجاهلية؛ مثل: الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، ومثل: المنافق، والفاسق، والمخضرم، ولما دونت العلوم على اختلاف فنونها، وحدثت معان لم تكن اشتقوا لها أسماء من اللغة، وأجروها مجرى العربي الصحيح في الاستعمال، ولم يقتصروا على الاشتقاق من العربية، وسلكوا طريقة العرب في اقتباسهم من غير لغتهم، فنقلوا جملة من الكلمات الأعجمية، واستعملوها بحالها؛ كالسقمونيا، والإسطرلاب من اللغة اليونانية، والأسطوانة، والبنج من اللغة الفارسية، هذه الاصطلاحات المتجددة، وإن كان السبب الذي يدعو إلى وضعها أولاً هو الحاجة إلى التفاهم في مسائل تلك العلوم، فلا جناح على من أوردها في أغراض خارجة عن العلم متى جرت إليها مناسبة تشبيه، أو تلميح في خطاب لا يقصد به إلا الخاصة من الأدباء، وإنما يعاب استعمالها في مثل المقالات والقصائد والخطب التي يوجه الخطاب فيها إلى عامة الناس؛ لغموض معانيها، وعدم اشتهار وضعها.
وفي قصائد الشعراء ورسائل الكتاب من التلميحات والتشابيه بالمعاني العلمية ما يستحق أن يذكر في عدد حسناتهم البديعية؛ كقول بدر الدين الدماميني
في بعض قصائده:
وقد شابه الأعداء جمعاً مؤنثا
…
لذاك غدت في حالة الفتح تكسر
وكثرت اصطلاحات الفنون، واتسعت شعويها حتى خصصوها بمعجمات؛ مثل كتاب:"التعريفات" للجرجاني، وكتاب "الكليات" لأبي البقاء، و"كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي.
فالإسلام لم يعق العربية عن النمو، ولا شد وثاقها عن الارتقاء مع المدنية كما أوحي به إلى بعض المسامرين، فقرر في سياق الاستشهاد على موت العربية:"أن المسلم الخالص يلزمه أن يبقى اللسان الذي نزل به القرآن على حاله. وتحويل الكلمة عن معناها الأصلي إلى معنى جديد يعد تغييراً للغة"، فهذا لفظ الباي، والمدير، والسفير، والمشير، ومجلس الشورى، وكثير من اصطلاحات الصنائع والفنون لم تكن معروفة في صدر الأسلام بهذه المعاني الخاصة، ويستعملها الناس منذ وضعت بدون تحرج منها، أو دخول شبهة عليهم في استعمالها.
ومما يزيل هذا الغلط، ويمحي أثره: أن العربية لم يحتكرها العرب المسلمون لأنفسهم، ولا سدوا أفواه القوم المخالفين لهم عن التخاطب بها، بل لا تزال لسانَ طوائف ذات ملل مختلفة من حين بزغت شمس الإسلام إلى يومنا هذا، فعلى تسليم أن يقضي الإسلام ببقاء اللغة واقفةً عند حد، فلا يجري حكمه هذا إلا على من لبسوا هديه، وتطوقوا بقلادة شريعته؛ لأن هؤلاء الطوائف - وإن ضمهم الأسلام تحت حمايته - فإنه يطلق لهم الحرية فيما يدينون وما يصنعون، ولا يحملهم على ما يقرره من الأصول أو الفروع، فإذا قدرنا أن العربية سكنت أنفاسها، ولحقت بأصحاب القبور كما يزعم المسامر، فهي
وسيلة من وسائل الارتقاء وسعادة الحياة، أهملتها أمة غير متحدة في الملة، فكيف يستقيم لنا أن نلقي مسؤولية ذلك على عاتق دين لا تنسحب واجباته على جميعها، وليس التصرف في ترقية حال اللغة من متعلقات السياسة خاصة حتى يقال إن أمره في يد الهيئة الحاكمة، وهي متلبسة بشعار الإسلام. فلو نهض أفراد من أمة غير مسلمة يسعون إلى عمل لا يلحق بغيرهم ضرراً؛ كإصلاح لسانهم، لم يكن للدولة الإسلامية بوصفها إسلامية أن تعاضهم، وتحول بينهم وبين ذلك المسعى، صان كان عملاً غير صالح في شريعة الإسلام. فليس من العدل في القضية أن نسند موت اللغة -لو وقع - إلى الإسلام وحده، وهي لسان أمم لا تجمعها شريعته.
قال المسامر: إن هذه اللغة ضيقة النطاق، لا تسع تحريرات العلوم العصرية، ولا يمكن أن يوجد فيها أسماء لهذه المخترعات، نحو: فوتغراف، وتلفون. وهذه قضية تردها شهادة التاريخ والعلم؛ فإن علوم الحكمة والطب والهندسة والحساب والفلك والمنطق وغيرها قد ترجمت في عهد الدولة العباسية، ودونت بالقلم العربي، وأصبحت تدرس بلسان عربي مبين، وأما شهادة العلم، فانه يمكننا أن نضع لهذه المعارف الحديثة أسماء عربية، وهو أحسن الطرق وأفضلها؛ لئلا تكثر الألفاظ الدخيلة، وتتغلب على ما هو عربي، فتؤول بكثرتها إلى خروج الكلام وانسلاخه عن صبغته العربية؛ فإن اللغات تتمايز بالأساليب، وبالمفردات، إلا ما كان قليلاً.
ولما كانت العربية من اللغات المتصرفة يُشتق منها اسم الفاعل والمفعول، والمكان والآلة، سهل الطريق إلى وضع أسماء مفردة لهذه المستحدثات؛ فإن أكثرها من قبيل المكان، أو الآلة، أو الموصوف بالفعل، وهناك وسيلة