الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي هو ضد مدلوها، فكان ذكرها على ما يقتضيه وضعها أمراً لابد منه، ولكنهم حذفوها في جواب القسم؛ لكثرة استعمالها، ولا يصح إلحاق لفظ "ما" بها، وإن كانت مرادفة لها في المعنى؛ لأنها لا تشاركها في الوجه الذي اقتضى العدول بها عن الأصل، وهو كثرة الاستعمال.
وإذا وضعت ألفاظ للدلالة على غرض، وانتظمت في منهج، وسمع في أحدها حذف بعض متعلقاته، فهل يجري الحذف في متعلقات ما يشاركه في المعنى على طريقة قياس التمثيل؟.
ومثال هذا: ما ثبت من أن العرب يحذفون صدر الصلة مع أيّ الموصولة، فيقولون: زارني أيهم أفضل، والأصل: أيهم هو أفضل، فحذفوا الضمير الذى هو صدر الصلة، وقد وقف بعض النحاة عند هذا الموضع، واستضعفوا حذف مثل هذا الضمير مع غير أيّ من الموصولات، ولم يستضعفه ابن مالك، فالقائل بمنع القياس ناظر إلى أن حذف متعلق الكلمة، وهو صدر الصلة، جرى على غير أصل، فلا نتجاوز به حد السماع، ونلحق به ما يشارك تلك الكلمة في وجه الاستعمال، ونحذف متعلقه كما حذف تعلقها. والقائل بجواز الإلحاق ناظر إلى أن اتحاد الكلمتين في المعنى يجعلهما بمنزلة الكلمة الواحدة، فما يثبت لأحدهما من الأحكام يصح إعطاؤه للأخرى؛ حيث إن الأسلوب معهما متماثل.
*
القياس في مواقع الإعراب:
إذا وردت الكلمة بمكان من الإعراب، ولم يسمع استعمالها في غير هذا المكان، فأصولهم تقتضي أنها تطرد فيما سمعت، ولا يقاس عليه غيره من المواضع، ومن هذا: تخصيصهم الكلمات: فل، ولومان، ونومان بحال
النداء، وقط، وعوض بالظرفية، أو الجر بمن.
ومن فروع هذا: قول ابن الحاجب، وسعد الدين التفتازاني: إن لفظه: "كل" إذا أضيفت إلى الضمير لم تستعمل في كلامهم إلا توكيدًا، فيمتنع إيرادها مفعولاً به، أو فاعلًا، ومن أجاز إيرادها مفعولاً به؛ كابن هشام اعتمد على ما وقع في يده من الشواهد التي منها قول الشاعر:
"فيصدر عنها كلُّها وهو ناهل"
ومما يجري على هذا الأصل قولهم: إن كافة، وقاطبة، وطُرّاً لا تخرج عن الحالية، وعدّ ابن هشام في أوهام الزمخشري تخريجه لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] على أن كافة نعت لمصدر محذوف، والتقدير: رسالة كافة، ومن نازعوا في اختصاصها بالحالية يقفون موقف المدعي المطالَب بالدليل، وقد استشهدوا على ما ذهبوا إليه بمثل قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه:"قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهباً".
وحاول الشهاب الخفاجي هدم هذا الأصل المقرر في الصدر، فقال في "شرح الدرة": فإن "كافة" ورد عن العرب بمعنى جميع، لكنه استعمل منكراً منصوباً، وفي الناس خاصة، ومقتضي الوضع: أنه لا يلزمه ما ذكر، فيستعمل كما استعمل "جميع" معرفاً ومنكراً بوجوه الإعراب، وفي الناس وغيرهم؛ لأنَّا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العارية والمستعربة، حجَّرنا الواسع، وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم.
وهذا الرأي لا يؤخذ به على الإطلاق، ولا يستضاء به في كل حال؛ فإنه لا يطابق ما قاله أساتيذ العربية من أن معرفة الوضع غير كافية ما لم ينضم إليها
العلم بحال الاستعمال.
قال ابن خلدون في "المقدمة": ليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك، وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره؛ حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو شر من اللحن في الأعراب وأفحش.
ولو اقتدينا بالشهاب في إباحته، وسرنا على أثر مقالته المطلقة العنان، لعمدنا إلى مثل: قط، وقبل، وعند، ومع، وأخرجناها عن الظرفية إلى نحو الابتداء، أو الفاعلية، ولا أحسبه يرضى للغة هذه الفوضى، فيفصم نظامها، وهو يريد توسيع نطاقها.
والتحقيق في هذا المطلب: أن ما يصلح أن نجريه على القاعدة في الإعراب نوعان:
أحدهما: ما يدور على ألسنة البلغاء وغيرهم، ويجري في مخاطباتهم بحالة خاصة من الإعراب، مثل: عند، وقبل، وقاطبة، ومع، وهذا هو الذي نقف فيه عند حد السماع؛ فإن كثرة دورانه في مجاري كلامهم نظمًا ونثرًا، وتقلبه في أساليبهم بحالة مخصوصة من الإعراب يشعر بقصدهم إلى تخصيصه بتلك الحالة، وما كان ينبغي لنا في هذا القسم إلا أن نتحرى الطريقة المألوفة في استعماله.
ثانيهما: ما لا يتردد في أغلب مخاطباتهم، وإنما يرد في حال لا يدل على قصدهم إلى قصره على الحالة التي جاءت بها الرواية. وهذا هو الذي يسوغ لنا أن نخرج به عن حالته الواردة. ونستعمله في المواضع التي يساعد عليها الوضع، فلو لم نسمع لفظ الضرغام، أو اللوذعي، أو الفيصل إلَّا فاعلاً أو
مفعولاً، كان لنا إيراده في تراكيب من عندنا مضافاً إليه، أو مبتدأ، أو خبراً.
فيتضح من هذا التفصيل مذهب الجمهور، ووجه ماخذه. ويمكنك أن تقضي به على مقالة الشهاب؛ حيث أباح خروج "كافة" عن الحالية بمجرد النظر إلى حال الوضع؛ فإن هذه الكلمة من القسم الأول قطعاً، فيجب على من ذهب إلى صحة استعمالها فاعلاً أو مفعولاً - مثلاً - إقامة شاهد على ذلك، ولا يكفيه التمسك بأنها قابلة لهذه الوجوه من الإعراب بحسب وضعها.
وللشيخ الكافيجي مقالة تشبه مقالة الخفاجي، هي: أنه تكلم عن نحو قولك، في الدار علي، والمسجدِ خالد (1)، ثم قال: إن جزئيات الكلام إذا أفادت المعنى المقصود منها على وجه الاستقامة لا يحتاج إلى النقل والسماع، وإلا لزم توقف تراكيب العلماء في تصانيفهم على ذلك.
وهذه العبارة مطلقة العنان، فلابد من وقفها عند حد، فنقول:
إن أراد الكافيجي بقوله: "أفادت المعنى على وجه الاستقامة": أن المعنى حصل في ذهن المخاطب عند النطق بها كاملاً. فهذا لا يكفي في صحة الكلام عند علماء العربية قطعاً؛ فإن من التراكيب ما يفهم منه المعنى المراد، ويكون المتكلم قد خالف فيه بعض القواعد المجمع عليها، وإن قصد بوجه الاستقامة: المطابقة لصحة الأسلوب عربية، قلنا: هذا هو محل النزل بينه وبين من لا يجيز المثال: في الدار عليٌّ، والمسجدِ خالد؛ فإن
(1) هذا مما يعبر عنه النحاة بمسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين؛ فإن المسجد معطوف على الدار المعمول لحرف الجر. وخالد معطوف على علي المعمول للابتداء.