الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونقل شرَّاح "درة الغوَّاص" عن أبي محمد ما يؤخذ منه أن اشتقاق الأفعال من اسم العين على وزن استفعل مقبول في القياس، ذلك أن الحريري أنكر قولهم:"استأهل"، فقال أبو محمد: استأهل استفعل، وأصله الهمزة، وهو جائز كثير؛ كاستأسد الرجل، واستأبر النخل، واستنوق الجمل؛ أي: صار ناقة، فإذا استعمل استأهل بمعنى صار أهلاً، كان قياساً جائزاً مع أن السماع فيه ثابت.
ولم نجد في نصوص أهل العلم ما يساعد على الاشتقاق من أسماء الأعيان بإطلاق، وهو موضوع يستدعي بسطًا في القول، فنكتفي في هذا الفصل بما حدثناك به، وندع البسط إلى غير هذا المقام.
*
ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق
؟
لا يجب على الناظر في المشتقات من نحو: اسم الفاعل، واسم المفعول، وأفعل التفضيل، واسم المكان، واسم الزمان- عندما يريد تقرير قواعدها- أن يستقرئ جميع ما ورد منها في كلام العرب، فإنه يتعذر عليه الوصول إلى هذه الغاية، نظراً إلى سعة اللغة، وانتشارها إلى ما لا يمكن الإحاطة به، والذي في وسعه أن يتتبع جزئياتها إلى أن يأتي على مقدار يفيد ظناً قوياً، وثقة بأن اللغة جارية في مثله على رعاية قاعدة، والذي لم يقع تحت استقرائه يكون قاصداً لإجرائه في الكلام على ما يطابق هذه القاعدة، فيصح لنا أن نرجع إلى القاعدة في كل لفظ يتفق دون أن نتوقف على سماع.
وهاهنا إشكال لا يزال يتردد على ألسنة طلاب العربية، وهو أن واضع القاعدة إذا لم يلزمه استقراء جميع جزئياتها، وجاز له الإكتفاء في تقرير القاعدة بتتبع جانب عظيم من الجزئيات، فما باله يصرح في بعض الأفعال والمصادر؛
مثل: ويح، وويل، ونعم وبئس وعسى، ويذر وياع، بأنها لا تتصرف، ولا يصح أن يشتق منها اسم فاعل أو اسم مفعول أو أفعل تفضيل؟ وأي فرق بين هذه الأفعال والمصادر، وبين ما لم يبلغه استقراؤه من المصادر والأفعال، فيسوغ لنا أن ناخذ منها أوصافًا أو أفعالاً، ولا يجوز لنا أن نأخذ مثل ذلك من ويل وويح ونعم، وما شكلها من المصادر والأفعال التي يقولون عنها: إنها غير متصرفة؟
وجواب هذا: أن الأفعال والمصادر التي لم يسمع لها فروع في الاشتقاق على ضربين:
أحدهما: ما يكثر استعماله في موارد كلام العرب من غير أن يتصرفوا فيه؛ مثل: ويل وويح ونعم ويذر وما يماثلها، وعدم تصريفهم لها- مع كثرة ترددها في محاوراتهم ومخاطباتهم- دليل على قصدهم لإبقائها على هيئتها. فمن تصرف فيها، فقد أتى بها على وجه قصد العرب إلى تركه، والناطق بما يقصدون إلى إهماله ناسج على غير منوالهم، وناطق بغير لهجتهم. هذا مذهب جمهور أهل العربية، وذهب بعضهم إلى جواز استعمال ما أهمله العرب متى دخل تحت قياس. قال ابن درستويه في "شرح الفصيح":"إنما أهمل استعمال وَدَع ووَذَر؛ لأن في أولهما واوًا، وهو حرف مستثقل، فاستغني عنهما بما خلا منه، وهو: ترك"، ثم قال:"استعمال ما أهملوا من هذا جائز صواب، وهو الأصل، وهو في القياس الوجه، وهو في الشعر أحسن منه في الكلام (النثر) (1) ".
ثانيهما: ما لا يكثر في مخاطباتهم حتى يستفاد من وروده بهيئة واحدة
(1)"المزهر"(ص 25).
أنهم قصدوا إلى ترك تصريفه. وهذا هو الذي نعمل به على طبق القاعدة، وإن لم يبلغنا أو يبلغ الواضعين للقواعد أن العرب تلفظوا فيه على وَفق القاعدة. فيصح لنا أن نجري قاعدة الاشتقاق في هذا النوع، وإن لم ندر أن العرب تصرفوا فيه على هذا الوجه من الاشتقاق.
قال أبو عثمان المازني: ما قيس على كلام العرب، فهو من كلام العرب، ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول؟ وإنما سمعت بعضها، فقست عليها غيره.
وقال ابن جني - بعد أن سرد أمثلة من اسم المكان والمصدر الواردين على اسم مفعول -: هذا كله من كلام العرب، ولم يسمع منهم، ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه.
فإن قلت: ماذا يريد أبو إسحاق الشاطبي من قوله في "شرح الخلاصة":
"الذين اعتنوا بالقياس والنظر فيما يعدُّ من صلب كلام العرب، وما لا يعد، لم يثبتوا شيئاً إلا بعد الاستقراء التام، ولا نفوه إلا بعد الاستقراء التام، وذلك كله مع مزاولة كلام العرب، ومداخلة كلامها، وفهم مقاصدها، إلى ما ينضم إلى ذلك من القرآن ومقتضيات الأحوال التي لا يقوم غيرها مقامها".
قلنا: يريد من الاستقراء التام: الاستقراء الذي يفيد ظناً قوياً يكفي لتقرير أحكام اللغة. ويدلك على أنه لم يرد من الاستقراء التام تتبع أقوال العرب قولاً فقولاً إلى أن يأتي على آخرها، قوله فيما بعد: فالواجب على المتأخر التوقف حتى يدخل من حيث دخل المتقدم، فإن وجد الأمر مستثبتاً مطرداً على خلاف ما قال الأول، لم يسعه إلا مخالفته، وإن لم يجده كذلك،