الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث وقف أبو علي البغدادي، وانقطع به القول، فوصل منذر افتتاح أي علي بكلام عجيب، وأطال النفس في خطبة مرتجلة، فخرج الناس يتحدثون ببديهته المعجزة، وارتواء لسانه من اللغة الفصحى، ولا مرية في أن كرم الدولة باعث على إرتقاء حال اللغة عند من التفت إلى التاريخ، وأقام الوزن بين الشعراء الناشئين في زمن أجواد العرب، وملوك آل جفنة، وملوك لخم؛ كزهير والنابغة، وبين من تقدمهم من الشعراء.
*
فصاحة مفرداتها ومحكم وضعها:
تتفرع العربية بحسب إختلاف الشعوب والقبائل إلى لغات متعددة، ولكنها متقاربة اللهجة في أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، والمغايرة بينها يسيرة جداً لا تخرجها عن اعتبارها في الأصل لغة واحدة ذات قوانين تطرد في جميعها، ما عدا لغة حِمير؛ فإنها تخالف لغة مضر خلافاً ظاهراً، ولا توافقها في أكثر أوضاعها ومقاييسها.
وأفصح لغات العرب لغة قريش، وفضلت عن سائر اللغات بوجهين:
أحدهما: بعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ولهذا لم يحتج أهل الصناعة العريية إلا بلسانهم، أو ما كان قريباً منه، ولم يعتمدوا لغات القبائل التي تجاور غيرها من الأمم؛ كلغة لخم وجذام وقضاعة وغسان، ولم يخالفهم في شرطهم هذا إلا أبو عبدالله بن مالك، فنقل في كتبه لغة لخم وقضاعة وغيرهم ممن يسكن أطراف الحجاز.
ثانيهما: أن العرب كانوا يفدون عليهم في موسم الحج، ويقيمون عندهم قريباً من خمسين يوماً، فيتخيرون من لغات أولئك الوفود ما تعادلت حروفه، وخف وقعه على الأسماع، ويرفضون كل ما يثقل على الذوق، ولا يجد
في السمع مساغاً.
ولا غرابة أن تجري الألفاظ في وصف الحسن والقبح مجرى جنسها الذي هو الصوت، فمن الأصوات ما يحدث في السمع لذة، ويرتاح الخاطر بالإصغاء إليه كنغم الأوتار، وسجع البلبل من الطير، ومنها ما يرميه الطبع، وينقبض لسماعه؛ كنعيق الغراب، وصرير آلة النشر.
ويمكن الحكم على اللفظ بالحسن وضده - ولو من غير العارف بمعناه - متى كان ذوقه صحيحاً، فكل ذي ذوق سليم يفرق بين الورد، والوردة، والخوجم والخوجمة، ويميز بين السيف والخنشليل، ولا تتشابه عنده النفس والجرشى.
وإذا كان إدراك صفة الحسن في اللفظ المفرد لا يتوقف على ملاحظة مدلوله، فيتيسر لمن لا يحسن لغة قوم أن يستمع إلى مفرداتها المستعملة عند الفحصاء منهم، ويستقرئها إلى أن يأتي على أكثرها، ثم يدخل إلى الحكم في وصفها بالفصاحة، أو الموازنة بينها وبين لغة أخرى، ولا يبالي. ومن أصغى جيداً إلى الألفاظ العربية الجارية على ألسنة الفصحاء، وجدها لذيذة في السمع، خفيفة على الأرواح.
حكى الشيخ ابن الأثير في "المثل السائر": أنه لقي رجلاً إسرائيلياً بالديار المصرية، قال: فجرى ذكر اللغة العربية وفصاحتها، فقال ذلك الرجل من بني إسرائيل: كيف لا تكون كذلك؛ فإن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة، فاختصر ما اختصر، وخفف ما ضف، فمن ذلك اسم الجمل؛ فإنه عندنا في اللسان العبراني: كوميل، فجاء واضع اللغة العربية، وحذف منه الثقيل، وقال: جمل، فصار عذباً حسناً، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة.
ونقل بعض المحررين أخيراً حكاية ابن الأثير، وقال: سمعت من بعض اليهود العارفين بالعبرية أن الجمل يسمى: جمال، فيكون الفرق بينهما الألف بعد الميم، وأنكر تسميته كوميلاً، إلا أن هذا يقرب من اسمه بالرومية.
ويشهد لبناء العربية على قاعدة الاعتدال: أن أكثر كلماتها وضعت على ثلاثة أحرف، وأقلوا من الرباعي والخماسي؛ لئلا يطول بهم الأمد في القول بدون فائدة، ولم يكثروا من الثنائي؛ حذراً من أن تتجاور منه عدة كلمات في خطاب واحد، فيقع في لهجته تقطع كثير يضعف بنسيجه، ويذهب بحسن تناسقه، وبهاء توسله؛ فإن المتكلم الفصيح - وإن وصل الجمل بعضها ببعض، ولم يقف عند انتهاء كل جملة منها - لا يسردها سرداً، بل يفصلها في منطقه، ويرتلها ترتيلاً يميز به المتثبت في تلقي الخطاب الكلم الداخلة في الجملة من الكلم المنفصلة عنها، وربما يتبين من هيئة نطق الفصيح نهاية الكلمات، فيميز السامع الحرف الذي هو منتهى كلمة، من الحرف الذي هو بداية لكلمة أخرى. والثلاثي يبتدئ فيه المتكلم بحرف، ويعتمد على ثان، ثم ينتهي بحرف آخر، فيكون في آلة النطق أمكن، وشماعده على أن ينحو في هيئة خطابه نحو المتانة والانسجام.
قال الباقلاني: ولضيق ما سوى كلام العرب، أو لخروجه عن الاعتدال يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيراً؛ نحو: تكرر الطاء والسين في لسان يونان، ونحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية. ولشدة محافظتهم على الاعتدال في الكلم يسقطون شيئاً من حروفها إذا عرض لها طول في بعض