الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفصلون بين أداة التعريف والمعرف بجمل كثيرة، وربما كان الفعل مركباً من قطعتين، فيضعون القطعة الأولى في صدر الكلام، ويلقون الأخرى في نهايته، فيتفق أن يكون بين القطعتين كلمات فوق العشر، وتراهم يفصلون بين علامة الاستقبال والفعل بجمل متعددة، ولا شبهة أن ارتباط أداة التعريف بالمعرف، أو بعض أجزاء الكلمة ببعض، أو علامة استقبال الفعل بالفعل، لا يقلُّ في شدته عن ارتباط المضاف بالمضاف إليه. ولا ننسى أن للمصدر المضاف صلة بمعموله تشبه صلته بالمضاف إليه.
حاول بعضهم الاعتذار عمن يقولون في الآية تأتي على وجه يخالف مذهبهم النحوي: هذا غير مقيس، أو موقوف على السماع، فقال: إن النحاة لما استقرؤوا كلام العرب، وجدوه على قسمين: قسم اشتهر استعماله، وكثرت نظائره، فجعلوه قياساً مطردًا، وقسم لم يظهر لهم فيه وجه القياس؛ لقلته وكثرة ما يخالفه، فوصفوه بالشذوذ، ووقفوه على السماع، لا لأنه غير فصيح، بل لأنهم علموا أن العرب لم تقصد بذلك القليل أن يقاس عليه.
وإذا سلموا أن ما جاءت عليه الآية مما يخالف مذهبهم عربي فصيح، كان اعتذارهم بأن العرب لم تقصد لأن يقاس عليه، أوهى من بيت العنكبوت. وفي صحة القياس على ما ترد به الآيات الكريمة مخالفاً لما اشتهر في كلام العرب، زيادة في أساليب القول، وفتح طرق يزداد بها بيان اللغة سعة على سعته.
*
الحديث الشريف:
جرى جمهور النحاة على عدم الاحتجاج بالحديث الشريف في تقرير الأحكام العربية، وخالفهم العلامة محمد بن مالك، فجرى على الاستشهاد به
في كثير من الأحكام التي خالف فيها الجمهور، وسبقه إلى مخالفة النحويين في هذا الشأن: أبو محمد بن حزم، فقال عقب الكلام الذي نقلناه عنه في الاحتجاج بالقرآن الكريم:"وإذا وَجد- يعني: الباحث في العربية- لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا، فعَل به مثل ذلك؛ (أي: صرفَه عن وجهه، وحرَّفه عن موضعه)، وتالله! لقد كان محمد بن عبد الله قبل أن يكرمه الله بالنبوة، وأيام كان بمكة أعلمَ بلغة قومه وأفصح، فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة، واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه؟! ".
وكلام ابن حزم هذا لم يصادف المفصِل في رد مذهب الجمهور؛ لأن الجمهور لم يمتنوا من الاستشهاد بالحديث النبوي في تقرير أحكام اللسان لاعتقادهم النقص في فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يخطر على بال أحد ألمَّ بشيء من سيرته؛ فضلاً عن علماء عرفوا أنه كان أفصح من نطق بالضاد، وأوتي من جوامع الكلم وعلم ألسنة العرب ما لا يجاريه فيه أحد سبقه أو جاء من بعده، وإنما امتنعوا من ذلك؛ لكثرة ما وقع في الحديث الشريف من الرواية بالمعنى، وفي الرواة مولَّدون لم ينشؤوا على النطق بالعربية الصحيحة، والدليل على تصرف الرواة في ألفاظ الحديث - بعد احتفاظهم بمعانيها -: وجود أحاديث تختلف ألفاظها اختلافاً كثيراً، فترى الحديث الوارد في وقعة معينة قد اختلفت ألفاظه في الرواية، ومن هذه الألفاظ ما يكون جاريًا على المعروف في كلام العرب، ومنها ما يكون مخالفاً، وتصرف الرواة في الأحاديث هذا التصرف؛ لأنهم كانوا يوجهون همهم إلى ما أودِعَه الحديث من أحكام وآداب، فمتى عرف الراوي أن عبارته أحاطت بالمعنى وأخذته من جوانبه، أطلقها غير ملتزم الألفاظ التي تلقى فيها المعنى أولاً.
أما وجهة نظر ابن مالك، فهي أن الأصل رواية الحديث الشريف على نحو ما سمع، خصوصاً أن أهل العلم قد شددوا في ضبط ألفاظه، والتحري في نقله، والمجيزون لروايته بالمعنى معترفون بأنها خلاف الأولى، وبهذا الأصل تحصل غلبة الظن بأن الحديث مروي بلفظه، وهذا الظن كاف في تقرير الأحكام النحوية، على أن الخلاف في صحة نقل الحديث بالمعنى إنما يجري في غير ما لم يدوَّن في الكتب، أما ما دوّن في الكتب، فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير نزل كما نص على ذلك ابن الصلاح، وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول حين كان أولئك الرواة الذين يتصرفون في ألفاظ الحديث - على تقرير تصرفهم - ممن يوثق بهم، ويحتج في أحكام الألفاظ بعباراتهم. ومما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف بين الفريقين أربعة أنواع من الأحاديث:
أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته، وبلوغه أعلى ما يمكن لبشر أن يبلغه من حكمة البيان؛ فإن المعروف في رواة الحديث بهذا القصد أن يحافظوا على ألفاظ الحديث نفسها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"حمي الوطيس"؛ أي: اشتد الضراب في الحرب، وقوله:"مات حتف أنفه"؛ أي: مات على فراشه، وقوله:"الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
ثانيها: ما يروى للاستدلال على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم؛ ككتابه إلى همدان، وكلامه مع ذي المشعار الهمداني، وطهفة النهديّ، وغيرهما.
ثالثها: ما يروى لبيان أقوال كان يتعبَّد بها، أو أمَر بالتعبد بها؛ كألفاظ
القنوت، والتحيات، وكثير من الأدعية التي يدعو بها في أوقات خاصة.
رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة، واتحدت ألفاظها، فاتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها، فإن كان تعدد الطرق يبتدئ بمن رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأمر واضح، فإن انفرد بروايته صحابي، وتعددت طرق روايته عن الصحابي، صح الاستشهاد به أيضاً؛ إذ تصرُّف الصحابي في الحديث - على تقدير تصرفه فيه - لا يمنع من الاستشهاد به؛ لأن ألفاظ الصحابة مما يحتج به في العربية.
ومجمل القول: أن الأحاديث التي تتعدد طرقها، ويتحد لفظها، تصلح للاستشهاد متى كانت تلك الطرق المتعددة متصلة براو يحتج بعبارته في الأحكام اللغوية.
ويعتمد في تقرير أحكام اللفظ على أشعار الجاهلية؛ كامرئ القيس، وزهير، والمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام؛ كحسان، ولبيد، والإسلاميين، وهم الذين نشؤوا في صدر الإسلام؛ كالفرزدق، وذي الرمة. وأما المحْدَثون، وهم المولَّدون، وتبتدئ طبقتهم ببشار بن برد، فلا يحتج بشيء من أشعارهم في أحكام اللسان؛ وكان بشار قد هجا الأخفش، فأورد الأخفش في كتبه شيئاً من شعره؛ ليكفَّ عنه (1)، وكذلك سيبويه استشهد بشيء من شعر بشار؛ تقرباً إليه؛ لأنه كان قد هجاه لتركه الاحتجاج بشعره (2)، واستشهد أبو علي الفارسي في كتاب "الإيضاح" ببيت أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روض الأماني لم يزل مهزولا
(1) كتاب "الموشح" للمرزباني.
(2)
"خزانة الأدب" للبغدادي.
ولم يكن ذلك من شأنه؛ لأن عضد الدولة كان يحب هذا البيت، وينشده كثيراً (1).
وذهب بعض علماء العربية إلى صحة الاستشهاد بكلام من يوثق به من المحدثين، وجنح إلى هذا المذهب: الزمخشري؛ فقد استشهد ببيت لأبي تمام في تفسيره، وقال:"وهو- وإن كان محدثًا لا يستشهد بشعره في اللغة- فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقنعون بذلك؛ لوثوقهم بروايته وإتقانه"، ونحا هذا النحو العلامة الرضي، فقد استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع من شرحه لـ:"كافية ابن الحاجب"، وجرى على هذا المذهب الشهاب الخفاجي، فقال في "شرح درة الغواص":"أجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه".
وضعف هذا المذهب من ناحية أن الرواية تعتمد على الضبط والعدالة، أما الثقة بصحة الكلام، أو فصاحته، فمدارها على من يتكلم بالعربية بمقتضى النشأة والفطرة، وكيف يحتج بأقوال هؤلاء المولدين، وقد وقعوا في أغلاط كثيرة لا يستطيع أحد تخريجها على وجه مقبول؟! فهذا أبو تمام يقول:
لعذلته في دمنتين تقادما
…
ممحوَّتين لزينب وسعاد
والصو اب: "تقادمتا".
وهذا المتنبي يقول:
فإن يك بعض الناس سيفاً لدولةٍ
…
ففي الناس بوقات لها وطبول
(1)"تاريخ ابن خلكان".
والصواب في جمع بُوق: بُوَق، أو أبواق.
ومن هنا يتبين لك أن استناد بعض المتأخرين في تصحيح بعض الكلم إلى استعمال أحد أهل العلم غير سديد، فمن الخطأ أن يُردَّ على صاحب "القاموس" في قوله:"والأنموذُج لحنٌ" بأن الزمخشري سمى كتاباً له بـ: "الأنموذج"، والنووي عبَّرَ به في "المنهاج"، فقال:"أنموذج المتماثل".
وكم من إمام في العربية ينطق، أو يؤلف بعبارة تخالف مذهبه الصريح، أفلم يشترط ابن هشام في كتاب "المغني" لدخول هاء التنبيه على الضمير كون خبره اسم إشارة؟ ولم يحافظ على هذا الشرط، فقال في خطبة الكتاب نفسه:"وها أنا بائح".
ووقع صاحب "القاموس" في هذه الهفوة بعينها، فشرط لاتصال هاء التنبيه بالضمير ما شرطه ابن هشام من الإخبار عنه باسم الإشارة، ولم يأخذ نفسه بهذا الشرط، فقال في خطبة "القاموس":"وها أنا أقول".
ويؤكد لك عدم صحة الاحتجاج بما ينطق به علماء العربية: أن صاحب "القاموس" صرح بأن كلمة: (بعض) لا تدخلها اللام، وهو يعلم - كما نقل بعد هذا الحكم - أن سيبويه والأخفش قد استعملاها في كتابيهما.
فالحقُّ أن لا حجة فيما يلفظ به رواة الشعر، أو علماء العربية، إلا أن تذكره على وجه الاستئناس، وأنت مالئ يدك بما هو حجة، أو منتظر لأن تظفر بالحجة.
ولابن السيد البطليوسي وجهة أخرى في صحة الاحتجاج بشعر أبي الطيب المتنبي، هي: أن البيت الذي سكت عنه علماء اللغة الذين تناولوا شعره، ولم ينكروه عليه؛ يلحق بما يصلح للاستشهاد به من كلام العرب،
ذلك أنه أورد في الإستشهاد على صحة إضافة "أل" إلى الضمير: قول المتنبي:
والله يُسعد كل يوم جده
…
ويزيد من أعدائه في آله
ثم قال: وأبو الطيب - وإن كان ممن لا يحتج به في اللغة -؛ فإن في بيته هذا حجة من جهة أخرى، وذلك أن الناس عُنوا بانتقاد شعره، وكان في عصره جماعة من اللغوفي والنحويين؛ كابن خالوية، وابن جني، وغيرهما، وما رأيت منهم أحداً أنكر عليه إضافة "أل" إلى المضمر؛ وكذلك جميع من تكلم في شعره من الكتاب والشعراء؛ كالواحدي، وابن عباد، والحاتمي، وابن وكيع، ولا أعلم لأحد منهم اعتراضاً على هذا البيت.
وهذا الذي يقوله البطليوسي في شعر المتنبي الذي لم ينكره أولئك العلماء والكتاب لا يرفعه من مرتبة الاستئناس به إلى مرتبة أن يكون حجة عند علماء العربية الذين يجتهدون في تقرير أحكام اللسان.
ويحتج بالبيت الذي لا يعرف قائله متى رواه عربي ينطق بالعربية بمقتضى السليقة، وكان العرب ينشد بعضهم شعره للآخر، فيرويه عنه كما سمعه، أو يتصرف فيه على مقتضى لغته، ولهذا تكثر الروايات في بعض الأبيات، ويكون كل منها صالحاً للاحتجاج، كما يحتج بالشعر الذي يرويه من يوثق به في اللغة، واشتهر بالضبط والإتقان، وان لم يعرف قائله، وقد تلقى علماء العربية شواهد كتاب سيبويه بالقبول، وفيها نحو خمسين شاهداً لم تعرف أسماء قائليها، فإنما يكون الرد وجيهًا، إذا روى الشعر من لم يكن عربيًا فصيحاً، ولم يشتهر بالضبط والإتقان فيما يسوقه من الشعر على أنه عربي فصيح.