الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحيحة؛ صح لنا أن نعطيها حكم استحوذَ واستصَوب، فنتكنم بها ثقة بأنها كلمة لا شبهة في فصاحتها، ولكنا نرجع بأمثالها إلى حكم القياس. وهو أن مَفاعِل لا تقلب الياء فيه همزًا متى كانت الياء عينًا في بناء مفرده، فإن كان راجعاً إلى النظم، خالفناهم في دعوى خروجه عن القياس، وصح لنا أن نعده فيما يقاس عليه، وننسج على منواله، إن أباه البصريون والكوفيون، فلا نبالي أن نقدم معمول المصدر على المصدر متى كان المعمول ظرفاً أو جاراً أو مجروراً، وإن منعه جماعة من النحاة، فلو قال أحد: رُزق فلان على خصمه الفوز، أو قال: يعجبني أمام السلطان تكلُمك بالحق؛ لقضينا لقوله بالفصاحة؛ إذ له أسوة بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، ولا نبالي تقديم معمول صلة "أل" على "أل"، متى كان المعمول ظرفاً، أو جاراً، أو مجروراً، وإن منعه كثير من النحاة، فلو قال أحد: إني لزيد من المحبين، لتلقينا قوله بالقبول؛ إذ لم يزد على أن اقتدى بقوله تعالى:{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، وقوله تعالى:{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11].
*
القياس على ما لابد من تأويله بخلاف الظاهر:
قد يرد في كلام العرب ضرب من الكلام على وجه شائع، ولا يستقيم المعنى إلا بتخريجه على خلاف ظاهره؛ ومقتضى مذهب فريق من علماء العربية المنعُ من القياس عليه، وإن كان وجه تأويله مما يسعه القياس. ومما يساق شاهداً على هذا: قولهم في المصدر الذي أكثر مجيئه حالاً: إنه مقصور على السماع، مع أنهم يؤولون المصدر باسم الفاعل، أو يقدرون معه مضافاً يصلح أن يكون حالاً؛ فيكون المراد من المصدر نحو "بغتة" في قولهم:
"طلع زيد بغتة": اسم الفاعل، أو محمل على أنه في التقدير:"ذا بغتة". وإطلاق المصدر مرادًا منه اسم الفاعل، وحذف المضاف، شائعان في الاستعمال بحيث لا يقفان عند حد السماع.
وذهب بعضهم إلى أنه من باب ما يقاس عليه. وهذا المذهب- بالنظر إلى ما يحتمله التركيب من الوجوه المقبولة في القياس- مذهب وجيه، ويشد أزره: أن علماء البلاغة استحسنوا حمل المصدر على الذات عند قصد المبالغة؛ نحو: زيد عدلٌ، أو رِضاً، وهذه المبالغة قد تقصد عند إيراده مورد الحالية.
ومن هذا الباب قولهم: إن اسم الزمان لا يخبر به عن اسم الذات.
وجاؤوا إلى نحو قولهم: "الليلةُ الهلالُ"، وأولوه بتقدير اسم معنى، وهو في هذا الشاهد لفظ:"طلوع" مضافاً إلى الهلال.
والحق - فيما يظهر - أن المنع من القياس في مثل هذا مقيد بما إذا لم يقصد المتكلم إلى تأويل قريب، ووجه مقيس، أما إذا نوى في الكلام اسم معنى يضيفه إلى المبتدأ، فيستقيم به المراد؛ فإنه يلتحق بسائر الجمل التي يحذف فيها المضاف لقرينة تشير إليه.
ولنسقْ إليك بهذه المناسبة أمثلة مما عده بعض الأدباء خطأ، وهو محتمل لوجه من وجوه القياس الصحيح:
أنكر الحريري قولهم: "هو قرابتي"، وليس هذا بمنكر من القول متى عرف المتكلم أن القرابة مصدر، وعمد إلى إطلاقه على الموصوف به على ضرب من المجاز أو التقدير.
وحكم صاحب "المصباح" على قولهم: "أَذَّن العصرُ" بالخطأ، والصواب:
أَذَّن بالعصر، مع أن إسناد الفعل إلى المفعول به - ولو بوسيلة حرف الجر - غير عزيز، وإنما يحكم عليه بالخطأ إذا صدر ممن لا يدري وجوه تصاريف الكلام العربي بفطرته، أو بتلقين.
ويشاكل هذا قول ابن قتيبة في "أدب الكاتب": "المَلَّة يذهب الناس إلى أنها الخبزة، فيقولون: أطعمنا ملة. وذلك غلط، إنما الملة موضع الخبزة"، قال ابن السيد في "شرحه":"وليس يمتنع عندي أن تسمى الخبزة ملة لأنها تطبخ في الملة كما يسمى الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب. أو يخرج على حذف المضاف إلى خبز ملة".
والصواب ما عرفته من أن التخطئة والتصويب في مثل كذا يرجع فيهما إلى حال المخاطب؛ إذ الذي يطلق الملة على نفس الرغيف، ويظهر لك من قرينة حاله أو صريح مقاله أنه أطلقها على اعتقاد أنها موضوعة للرغيف بوضع حقيقي، لا يخلص من سهام التخطئة، ولو احتملت عبارته وجهًا من وجوه القياس الصحيح.
ومن هذا القبيل حكم ابن قتيبة أيضاً على قول العامة: "تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها" بأنه خطأ، وقال: الصواب: "بثدييها"، فقال ابن السيد في "شرحه": أما ما يذهب إليه العامة من أن المعنى لا تأكل لحم ثدييها، فهو خطأ، ولكن يجوز على التأويل بحذف المضاف إلى أجر أو ثمن ثدييها، أو على المبالغة بجعل كلها لأجر ثدييها بمكان كل الثديين أنفسهما.
والتفصيل الذي سبق آنفاً من النظر في مثل هذا إلى حال المتكلم يجري هنا لولا أن العبارة مَثَل، والأمثال لا تُغير، فمن قصد بها ضرب المثل، فقد أخطأ من جهة تحريف المثلُ، وإن كانت العبارة التي ينطق بها العامة في نفسها