الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصريح من القول، لاتسع مجالها، وكبرت عن طوق العبارة الأولى.
*
اتساع وضعها:
تنقسم اللغات إلى: راقية، وغير راقية، فغير الراقية: ما كانت موادها قليلة، لا يسع التعبير بها أكثر ما تمس الحاجة إليه؛ مثل: اللغات الزنجية، ولغة بعض سكان أستراليا، وهذه الأخيرة - على ما نقل بعض الكاتبين - ناقصة جداً بحيث لا يمكنهم التفاهم بها إلا مع إشارات حسية، والعمي عندهم، والمتخاطبون ليلاً بمنزلة من في آذانهم وقر، لا يكادون يفقهون حديثاً. والراقية: ما غزرت مبانيها، واتسعت طرق دلالتها، فكانت موفية بتأدية المراد مع الاستغناء عن الإشارة، وعدم الاعتماد على قرائن الأحوال في الأكثر؛ مثل: اللاتينية، والفارسية، والعربية.
تحتوي العربية على ما يقوم بسداد الحاجة من أبنية الكلم، بل على ما تدعو إليه زيادة التحسن والتحبير، فإنا نجد المعنى الواحد قد وضعت له ألفاظ متعددة؛ لتكثر وسائل التفاهم؛ حتى لا تأخذ المتكلم حبسة في أثناء الخطاب، فإذا غاب عنه لفظ، وسعه أن يأتي بمرادفه، وإذا تعسر عليه النطق بكلمة؛ كالألثغ، عدل عنها إلى غيرها؛ كما فعل واصل الغزالي حين كان لا يحسن النطق بحرف الراء، فتركه في زوايا الإهمال، ولولا المترادف، ما أمكنه أن ينبذ الراء من كلامه جملة.
وقد يضطره الحديث إلى إعادة المعنى، فلا يؤوده أن يعيده بغير اللفظ الذي عبر به أولاً؛ مثلما قال معاوية رضي الله عنه: من لم يكن من بني عبد المطلب جواداً، فهو دخيل، ومن لم يكن من بني الزبير شجاعاً، فهو لزيق، ومن لم يكن من ولد المغيرة تياهاً، فهو سنيد. فقال: دخيل، ثم قال: لزيق، ثم قال:
سنيد، فخلص كلامه من كراهة التكرار، وارتفع شأنه في الحسن درجة. وبالمترادف استعان المعتمد بن عباد ملك إشبيلية حين وقف إثر جنازة ولده في محفل عظيم من الناس قاموا لتعزيته، واقتدر على أن يجيب كل واحد من المعزين بعبارة لم يعدها إلى غيره، مع كثرتهم، وكونه في أسف شديد.
قال الباقلاني: ويقول العارفون بألسنة الأمم: إنهم لا يجدون في تلك الألسنة من الأسماء الموضوعة للشيء الواحد ما يعرفونه من اللغة العربية. وتجد بعض اللغات خالية من علامة التمييز يين المذكر والمؤنث؛ كاللغة الفارسية، والتركية، والإنكليزية، وميزت العرب المؤنث عن المذكر بوضع الألف في اسم، أو التاء في اسم وفعل؛ كما فرقوا بينهما في الضمائر والموصولات وأسماء الاشارة.
ومن اللغات ما وضع خالياً مما يدل على العدد؛ كاللغة الإنكليزية، فاللفظ الدال على المفرد هو الدال على غيره، ومنها ما لا يوجد فيه سوى المفرد والجمع؛ كاللغة الفارسية، وزادت العربية بما يدل على الاثنين، فميزوه عن المفرد والجمع بعلامة الألف أو الياء، وأفردوه في وضع الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة باوضاع خاصة.
ومن خصائص هذه اللغة: جمع التكسير، وجمع الاسم الواحد على عدة أمثلة، وهذا لا يشاركها فيه غيرها، حتى اللغتان اللتان يجتمعان معها في أصل واحد: العبرانية، والسريانية، ويوجد جمع التكسير في اللغة الجيزية من لغات بلاد الحبشة؛ لأنها تفرعت في الأصل عن العربية.
ولا نجد في بعض اللغات أدوات رابطة بين الأفعال والذوات، وهي الحروف؛ مثل: اللغة الصينية، فيتكلفون في تأدية معنى "في" - مثلاً - إلى
ما يرادف كلمة: وسط، ولها في العربية محل من الاعتبار، ومدخل في الدلالة على المقصود، حتى أفردها بعضهم بالتاليف، وعدها ابن خلدون من خصائص العربية، ونفاها عن غيرها، وليس حكمه هذا بشامل؛ لأن الحروف توجد في لغات أخرى؛ مثل: اللاتينية، وما تفرع عنها.
ويحتمل الوضع العربي أن ينقل اللفظ عملاً وضع له أولاً، ويستعمل في غيره على شرط المناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المقصود من اللفظ، فيقال: غيث - مثلاً - ويراد: نبات، وأسد، ويراد: شجاع، وهذا ضرب من التوسع في الخطاب؛ لأنه زيد للنبات اسم هو الغيث، وجعل للشجاع اسم آخر هو الأسد، بل أسماء الغيث كلها صارت بهذه الوسيلة صالحة لأن تطلق على النبات، وجميع الألفاظ الموضوعة للأسد يصح استعمالها في الشجاع، وترجع أمثلة هذا النوع المسمى بالمجاز إلى ضربين:
أحدهما: ما كانت علاقته غير المشابهة، ويعرف بالمجاز المرسل، وقد أخبر الشيخ عبد القاهر الجرجاني بأنه لا يوجد في غير اللغة العربية.
ثانيهما: ما كانت علاقته المشابهة، ويختص باسم الاستعارة، وهذا الضرب لا تختص به العربية، بل يجري به العرف في غير اللغات الراقية أيضاً؛ فإن بعض سكان أستراليا لا يجدون في لغتهم ما يفيد معنى صلب، فإذا اضطروا إلى وصف شيء بالصلابة، قالوا: حجر.
ويتمايز هذان النوعان في الترجمة أيضاً، فلو أبدل مترجم الغيث في قولنا: رعينا غيثاً باللفظ الموضوع للنبات في اللغة المنقول إليها، لم يتغير المعنى، وكان مؤدياً للكلام بحاله، ولو أنه ترجم بحراً في قولك: رأيت بحراً يعطي الدنانير بلفظ يرادف كريماً، ولم يعبر بالاسم الذي يوافق البحر في تلك
اللغة، لأخل بجانب المعنى، ولم تكن الترجمة مطابقة، وقد تجري العادة في لسان قوم باستعارة اسم شيء لآخر، فيحسن موقعها من قلوبهم، ولا يألفها قوم في مجاري خطاباتهم، فتتبرأ منها أسماعهم، وتنفرها أذواقهم، وبمثل هذا يظهر النقص في صورة المعنى المؤدى بلهجة لغة إذا نقل إلى لغة أخرى.
ولاتساع العرب في كلامهم بهذه الوجوه: المترادف، وجمع التكسير، والمجاز، وما يشاكلها من القلب اللفظي؛ نحو: جبذ وجذب، وورود الكلمة الواحدة على عدة أحوال مختلفة بزيالة بعض الأحرف ونقصها؛ كإصبع وأصبوع، تمكنوا من بناء أشعارهم على هذه الأوزان المعتدلة، والتزموا فيها القافية ورويَّها بدون كلفة، فجاءت محكمة في وضعها، بديعة في نسجها.
قال أبو نصر الفارابي: إن الألسن العجمية متى وجد فيها شعر مقفى، فإنما يرومون أن يحتذوا فيه حذو العرب، وليس ذلك موجوداً في أشعارهم القديمة.
وتيسر للعرب بهذه الأسباب أيضاً أن يأخذوا بطريقة السجع، فيأتوا بالكلام قطعاً قطعاً، ويلتزموا في كل كلمتين منه قافية، وكان هذا النوع في زمن الجاهلية متداولاً بدون أن يتغلب على المرسل، وكثر ما يستعمل عند أصحاب الكهانة؛ فإنهم كانوا يلتزمونه التزاماً، ثم هجره الناس في صدر الإسلام هجراً جميلاً، فلا يستعملونه إلا إذا أرسلته السجية بدون تطلب وتصنع، ثم أخذ في القرون الوسطى من العناية والحظوة ما لم يكن له في صدر الإسلام، ولا في زمن الجاهلية، فدرج الناس على سنته في خطاب الجمهور، والتزمه الكتاب في مخاطبة السلطان إلى الرعايا، وكتبوا به بعض الرسائل العلمية، وتغنت به الباعة في النداء على أمتعتها.