الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخذت قوتهم وقدرتهم وصولتهم تزيد شيئا فشيئا، وبدأت دولتهم القوية تتسع يوما بعد يوم، وتغلبوا على الملاك المعاصرين والسلاطين، وتقدموا فى ميادين الفنون والصنائع والعلوم تقدما عظيما، وإن الآثار الجليلة التى تركوها لتدل على أنهم أرادوا أن يوصلوا ملتهم وأقوامهم فى سلم المعرفة والمدنية إلى الدرجة الأولى، لذلك بذلوا كل ما فى وسعهم حتى يصلوا إلى المراتب القصوى فى ميادين الفنون والعلوم والكشوف والاختراعات.
المدارس التى أسست فى بغداد، والمعاهد التى فتحت فى الأندلس وما بذل من الجهود فى سبيل التقدم فى العلوم والفنون يعلن كيف خدم العرب الفكر، وكل هذه الجهود من المباحث التى تزين صفحات التاريخ المنيرة وتوشحها.
ولكن لشدة الأسف فترت هممهم مع مرور الزمن، وأخذ الأوربيون يطورون العلوم والفنون التى تعلموها منهم، وأوصلوها إلى درجة عظمى نتيجة لسعيهم وحرصهم على العمل.
أهل المدر
النوع الأول من سكان جزيرة العرب هم الذين يطلق عليهم أهل المدر والذين يعرفون فيما بينهم ب «حضرى-بلدى» ويسكنون فى المدن والقرى ويعملون- على قدر ما يساعد مناخ بلدهم واستعدادهم-بالزراعة وتربية أشجار النخيل والعناية بالحدائق والبساتين، ويبذلون جهودهم لتأمين معيشتهم بما ينتجون من محاصيل، كما أنهم يؤمنون معيشتهم من جهة أخرى بالتجارة مع سكان البلاد المجاورة، فيسافرون إلى البلاد التى يرغبون فى الذهاب إليها، ويعرضون خضوعهم للملوك والأمراء والسلاطين الذين يتبعون لهم، كما أنهم يبذلون السعى والجهود لاكتساب المهارات والمعارف والفنون على قدر طاقاتهم ليوسعوا دائرة معيشتهم، وليصلوا إلى درجة من الثروة والغنى واليسار.
أهل الوبر
النوع الثانى من العرب هم العربان والبدو أى «أهل الوبر» وهم عرب البدو
والفيافى والصحارى التى تسكن تحت الخيم، ولما كان أهل الوبر سكان الصحارى عديمى الرغبة فى اكتساب العلوم والفنون فهم يختلفون اختلافا كليا عن أهل المدر فى سبيل تأمين وسائل معيشتهم، فالمساكن التى يسكنونها خالية تماما من علامات الجمال، فهى قد أعدت فقط لتقى أجسامهم من شدة حرارة الشمس، ومن تأثير اختلاف الجو وتغيراته ويعيش أغلبهم تحت الخيام التى نسجت من صوف الأغنام أو وبر الجمال أو شعر الماعز أو الخيول.
ويعيش بعضهم فى أكواخ
(1)
صنعت من سعف النخيل، كما يعيش آخرون فى مساكن بنيت من الحجارة والطين، ومفروشاتهم الحصير الذى نسج من سعف النخيل والأكلمة
(2)
المصنوعة من الصوف، وملبوساتهم عبارة عن قميص طويل ومشلح وكوفية ومداس، وقمصانهم الطويلة من قماش أزرق ومشالحهم من الصوف، وكوفيات بعضهم من الخيوط القطنية وكوفيات الآخرين من الحرير، والنعال التى يطلقون عليها «المداس» تصنع من جلد الجمال أو جلود الحيوانات الأخرى.
وبما أن الرجال والنساء قد تعودوا على أن يلبسوا قمصانا وجلابيب فى غاية الطول فإنهم لا يعرفون معنى السراويل، ويتركون صبيانهم الذكور عرايا دون ملابس؛ إلا أن الصبايا يتمنطقن بحزام من جلد ذا شراشيب فيسترون عوراتهن ويخفينها، إنهم لا يزيدون فى أكلهم وشربهم عن حاجتهم الضرورية شيئا، لذا ترى طعامهم زهيدا جدا وكذلك شربهم، وبما أنهم مكبون على تهيئة الأغذية الطبيعية التى تحفظ لهم حياتهم والتى هم إليها فى أشد الحاجة فأغلبهم يربون الجمال والغنم والماعز، ويدبرون معيشة أولادهم وعيالهم بمنتجاتها، كما أن بعضهم يدبرون قوتهم وقوت أولادهم بالرعى والزراعة والفلاحة. والذين يتعايشون بمنتجاتهم من الحيوانات مثل الجمال والغنم والماعز فى حالة ترحل
(1)
يطلق أهل الحجاز على هذه الأكواخ اسم «عشة» أما أهل اليمن فيسمونها «عريش» ،وإذا كانت هذه الأكواخ من حجر فيسمونها «مخزن» .
(2)
تعرف هذه البسط بين البدو باسم «شملة» .
دائم، ويسوق هؤلاء مواشيهم إلى الأماكن التى تمتاز بنقاء هوائها ووفرة مائها وكثرة أعشابها، والذين يشتغلون بالزراعة والفلاحة يسكنون القرى والأراضى الصالحة للزراعة. حتى إن عربان قبيلة عنزة التى تسكن فى الأراضى الواقعة فى شمال جزيرة العرب تمضى الصيف فى الشام وبغداد والجزيرة ذات الأراضى المعشوشبة، وتعود فى الشتاء إلى مواطنها الأصلية وتمضى الشتاء فى الوديان ذات العشب الوفير والماء الغزير.
والبدو تنحصر معايشهم فى منتجات الجمال والغنم والماعز فهم يقيمون فى الخيام، ولا يجدون أية صعوبة عندما يرتحلون من مكان إلى آخر. ولما كان هؤلاء يقضون حياتهم دائما فى الفيافى والصحارى منعزلين عن الحضارة لم يستطع أى ملك من الملوك أو سلطان من السلاطين الذين يخضعون لهم أن يدخلوهم تحت طاعتهم مثل الأقوام المتمدنة الأخرى.
أما انقياد البدو فى صدر الإسلام وخضوعهم لدولة الإسلام فيعود السبب فيه إلى ما كانت تتمتع به الدولة من السطوة القاهرة والقوة العظيمة.
والواقع يقتضى أن تكون الدولة التى تحكم جزيرة العرب صاحبة قوة قاهرة، وإذا فرضنا أن ولاة البلاد العربانية ذوو قدرة وقوة، ولكنهم يهملون فى الضبط والربط أو يتساهلون فيهما حتى لا يخلفوا لأنفسهم مشاكل تكون سببا فى أن عامة العربان يرفعون راية العصيان ويخالفون جميع الأوامر والآراء، وينقادون لمن اختاروه من بينهم شيخا لهم.
إن المشيخة بين العرب على الأقل شئ موروث أخذوه كابرا عن كابر، ولما كان كل شيخ راغبا فى حماية مصالحه الخاصة تراه يعمل على أن يستقل، ووفقا للمثل القائل «الحكم لمن غلب» فالشيوخ الضعاف والصغار يمضون حياتهم تحت حماية الأمراء الأقوياء الشكيمة من العربان.
وإن كانت طبيعة البدوى تتسم بالخشونة والرعونة، إلا أن هذه الخشونة ليست بدرجة تمنعه من الخضوع والانقياد لأوامر السلاطين العظام، ولديهم قابلية-بما
يتمتعون به من دراية فطرية وذكاء جبلّى-لقبول شرف المدنية بسهولة، وأكبر دليل على ذلك دخول بعض أفراد القبائل تحت طاعة الدولة دون أن ينخدعوا بحيل مشايخهم، وذلك عندما ساقت الدولة العثمانية جنودها سواء أكان إلى عسير واليمن أو نواحى البحرين، وأخذوا ينشرون العدالة فى الأماكن التى تمركزوا فيها، وذلك عندما رأوا ما يتمتع به الذين يعيشون تحت طاعة أوامر الدولة من راحة وطمأنينة واستقرار.
ويتردد بعض البدو فى تصديق سطوة السلاطين القاهرة، ولما كانوا جهلة بما يعنى قوة الملوك وشوكتهم فهم معذورون فى التردد فى هذا الموضوع.
ومن الحالات الخاصة بالبدو ألا يصدقوا ما يسمعونه بآذانهم ولو كان متواترا ما لم يروا بأعينهم، وقد ضرب المثل المشهور الذى يقول «إن إيمان البدو فى عيونهم» تصديقا لتلك الحالة.
وبما أن قبائل العربان تعيش فى الصحارى وبين الجبال فى حالة ترحال دائم، لذا فإن بعض أفرادها لم يروا بعض مدن جزيرة العرب مرجعهم لشراء ملبوساتهم وحاجياتهم، ناهيك عن بعض المدن من البلاد العثمانية؟.
والبدو يتفوقون من حيث الشجاعة على المدنيين، والشجاعة أمر ضرورى للبدو، والسبب الرئيسى فى ذلك أنهم ليسوا كالحضريين الذين يحتمون بالدولة والحكومة التى يعيشون تحت جناح صيانتها، ويشتغلون بأمور معيشتهم من الكسب فى راحة وأمن، بل إن البدو يعيشون فى الأماكن الموحشة فى عزلة، وفى الصحارى بين التلال والجبال، ويجدون أنفسهم مضطرين للدفاع عن أولادهم وعيالهم وأموالهم وما يملكون ضد أضرار الأعداء، لذا تراهم يسيرون متسلحين دائما مستعدين ليلا ونهارا، للدفاع عن أنفسهم ضد الحوادث المضرة التى يتوقعونها فى كل لحظة.
وقد تمكنت هذه الفكرة من ذهن أى عربى بدوى بحيث لا يمكن تزحزحها.
ومن الأشياء التى تجلب أنظار المنصفين وتنال تقديرهم وتحير العقول تحمل البدو
الجوع والعطش أياما كثيرة، وقطعهم المسافات الطويلة بسرعة دون تعب أو كلل، وتعودهم القتال منذ صباهم جعلهم فى الحرب والمعركة شجعانا من الدرجة الأولى.
ولقد حرص البدو منذ نشأتهم الأولى إلى يومنا هذا ألا يصيب أطوار بدويتهم وتقاليدهم خلل، وما يزالون إلى يومنا هذا يبذلون أقصى ما فى جهدهم للمحافظة على تلك العادات.
وقد شرفت جميع القبائل العربية التى عاشت فى عصر السعادة باعتناق الإسلام، وتركوا صفاتهم الذميمة التى كانوا يتخلّقون بها فى عصور الجاهلية، وسلكوا طريق السلامة واشتركوا فى الغزوات الإسلامية، وقطعوا المسافات فى سبيل الجهاد شرقا وغربا، وفتحوا كثيرا من البلاد وسخروها وأملوا أسماءهم وثبتوها وسجلوها على دفاتر الأيام بسيف الجلالة.