الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحميرية بمعاونة كسرى، إلا أنه قتل بعد استيلائه على اليمن بخمسة عشر عاما، وعلى رواية بعد أربعة أعوام، وبناء على رواية أخرى قتل من قبل الحبشة
(1)
وتقول الروايات أنه بعد قتل أبو مرة سيف لم يحكم أحد من نسل الملوك الحميرية اليمن، إلا أنه كان فى ناحية من نواحى اليمن مملكة اتخذت لنفسها واحدا من نسل حمير ملكا لها، وحكم هؤلاء الملوك الطوائف، وعلى رواية أن بلاد اليمن ظلت فى يد ملوك الفرس بعد قتل أبو مرة سيف إلى ظهور الإسلام.
والرواية الثانية أرجح على الرواية الأولى، حتى إن الولاة الذين يعينون من قبل الأكاسرة يطلق عليهم مرازبة.
وعدد ملوك المرازبة ثمانية ملوك، وكانت حاضرة ملكهم بلاد اليمن، وكان بدء ظهورهم قبل الهجرة بأربع وأربعين عاما، وكان زمن انقراض ملكهم بعد الهجرة النبوية بعشر سنوات، وبهذا بلغت مدة ملكهم ثلاثا وخمسين سنة.
وهذه الرواية صحيحة لأن بازان بن ساسان من الملوك المرازبة وحكم اليمن إلى بداية البعثة النبوية، وبما أنه اهتدى وأسلم فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما، ولما توفى فى السنة العاشرة من الهجرة ولى النبى صلى الله عليه وسلم ابنه شيرين على بعض البلاد اليمنية، وبهذا الشكل أعلى قدره ومرتبته بين الأهالى.
وكانت حاضرة ملوك حمير والتبابعة صنعاء ومدينة مأرب البعيدة عن صنعاء بمسافة ثلاث مراحل.
كانت مدينة مأرب تقع فى نهاية جبال حضرموت، وكانت فى أماكن غير آهلة بالسكان فى زمانها، وكانت ديار سبأ فى هذه الأراضى الخالية وكان سد مأرب فى هذه الديار كما سيأتى تعريفه فى الاستطراد الآتى.
سد مأرب- العرم -سيل العرم
كان سد مأرب قد بين جبلين عاليين لحماية بلدة مأرب من السيول التى تنزل من الأنهار التى حولها، وكان يطلق على المياه الكثيرة التى تتجمع خلف هذا
(1)
ما يطلق عليهم «الحبش» فى التواريخ العربية ليسوا الحبش الحاليين بل هم السودانيون الحاليون.
السد العرم بفتح العين وكسر الراء، كما أطلق على السيول العظيمة التى حدثت نتيجة لانهيار سد مأرب سيل العرم.
وبلدة مأرب التى مدحت فى القرآن الكريم- {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} (سورة سبأ/15) -كانت بعيدة عن صنعاء بثلاث مراحل، وذات هواء نقى وماء زلال، ومكان جيد وهى أثر من آثار سبأ بن يشجب.
وكان هذا السيل العظيم قد طغى من الجبال التى تقع فى مقدمة هذه البلدة الطيبة واتحد بنهيرات صغيرة كانت تنحدر من الجبال واكتسب ضخامة كأنه بحر.
وكانت بلدة مأرب قد أسست فى الأول من قبل أولاد وأحفاد سبأ بن يشجب السالف الذكر، وكانت قرية صغيرة ولكنها فيما بعد اتسعت وعمرت سواء أكان بأولاد سبأ أو أحفاده وأحفاد أحفاده، والذين تكاثروا بحيث أصبح الوادى الذى يسكنون فيه لا يتسع لهم؛ فانتقل بعض هؤلاء حول هذا الوادى واختاروا منه أماكن جميلة، وأسسوا قرى ومدنا جميلة، حتى وصل عدد قراها ومدنها إلى أربعة آلاف وسبعمائة كما تخبرنا به التواريخ، وكان أول هذه القرى والمدن التى أنشأها أولاد سبأ وأحفاده فى صنعاء اليمن وآخرها فى حدود الشام وكانت كل قرية بعيدة عن الأخرى ست ساعات ومبنية فى واد مستقيم مسطح بحيث كان الواقف فى قرية يرى القرية الأخرى.
وكان المسافر الذى يسير سيرا متوسطا يصل إلى القرية الأخرى فى ظرف ست ساعات، وكانت طرقها آمنة من جميع أنواع المخاطر.
وكان الإنسان يستطيع أن يذهب حيثما يريد ليلا ونهارا دون خوف، وكانت الطرق خالية من الحشرات المؤذية مثل العقارب والحيات المؤذية، كما أن القرى والمدن خالية من الحشرات مثل: القمل والبرغوث والذباب، وإذا ما وجدت حشرات مثل القمل والبرغوث فوق الذين يأتون من البلاد الأخرى كانت تهلك بمجرد دخولهم إلى بلاد سبأ.
وكانت أطراف الطرق بين المدن والقرى ممتلئة بالحدائق والبساتين، وكل بستان وحديقة مزينة بأنواع الفواكه والأزهار، وكانت هذه الفواكه والأزهار وفيرة كثيرة، بحيث كانت نساء القرى يخرجن للتنزه تحت الأشجار وفوق رءوسهن أسبتة وفى أيديهن خيوط القطن ينسجن وتمتلئ الأسبتة بالفواكه المتساقطة من الأشجار التى يسرن تحتها، ثم يعدن إلى منازلهن وقد تنزهن وحصلن على الفواكه، ومن الطبعى أن يرد للخاطر كيفية سقية هذه الحدائق الواسعة والبساتين الشاسعة فالإجابة على هذا الخاطر أن كثيرا من القنوات والجداول قد شقت حول نهر العرم فسقيت البساتين والحدائق بالمياه التى تجلبها هذه القنوات والجداول.
وبناء على هذا اكتسبت بلدة مأرب جودة فى الماء والهواء، كما أن الخضرة أكسبت البلدة جمالا ورونقا فاتسعت البلدة يوما بعد يوم، وأنشئت بساتين متصلة وحدائق متقاربة حول البلدة والطرقات.
وقد أصاب عقيدة أهالى مأرب الذين نالوا كل هذه النعم الإلهية، وحازوا العناية الإلهية ضعف ووهن إذا قالوا ماذا يحدث لنا؟ وماذا يكون مصيرنا إذا أمطرت السماء بغزارة وفاض نهر العرم وغمرت مياهه حدائقنا وبساتيننا التى بذلنا جهودا شاقة فى سبيل إنشائها وإنباتها؟ واستولى عليهم القلق والجزع نتيجة لمثل هذه الأفكار، وبناء على هذا فكر سبأ بن يشجب-على رواية-أو نعمان بن عاد-بناء على رواية أخرى-فى إقامة سد أمام نهر العرم طوله فرسخ وكذلك عرضه، وفعلا نفذ الفكرة وأنقذ أهل مأرب من هذا القلق الذى كان يقلق مضجعهم.
اختلف المؤرخون فى تحديد بانى سد مأرب، كما تنقل روايات مختلفة فى تعريف طول السد وعرضه ومتانته وضخامته.
قال الذين ذهبوا إلى أن بانيه نعمان بن عاد، أن طول السد وعرضه كان كل واحد منهما اثنى عشرة ألف خطوة وكان له فى ثلاثين مكانا قوائم، كما قال الذين زعموا أن بانى السد سبأ بن يشجب أنه لما تيقن أن عمره غير كاف لبناء مثل هذا السد الضخم فكر فى إتمام بنائه فى أقرب وقت ممكن؛ لذا أمر سكان سبعين
واد كبير بأن يشتركوا فى بناء السد، إلا أن عمره لم يف أيضا بالعمل فى البناء.
وإن هؤلاء المؤرخين أشاروا إلى أن عدة من الملوك والحكام توارثوا الملك منذ ابتداء العمل فى السد إلى الانتهاء من بنائه.
ولما كان بناء مثل هذا السد الضخم وإقامته لا يتم فى خلال حكم ملك واحد لأن عمر بنى البشر لا يمتد بهذا القدر، فالرواية الثانية ترجح على الروايات الأخرى.
قد بنى السد المذكور بصخور ضخمة ملصقة بالزيت والقار، وقسم إلى فروع وجعل له مساقى فوقية وتحتية وبعض القنوات وأقيم بين جبلين، وأخذت بعض أماكن السد تخرب بمرور الوقت؛ إلا أن الملكة التي تسمى بلقيس-والتى ورثت الحكم من ملوك التبابعة فى بلاد سبأ والتى اكتسبت العز والسعادة بالزواج من سليمان بن داود عليهما السلام-عمرت وأصلحت السد بصورة جيدة وقوته وفتحت له منافذ كثيرة. وفتحت ثلاثة أبواب وقوت ما حول الأبواب بصورة متينة رصينة.
وكان أهل مأرب يفتتحون كل سنة بابا من تلك الأبواب، أى كانوا يفتحون سنة الباب الأول، والسنة التى بعدها الباب الثانى، والسنة التى بعدها يفتحون الباب الثالث، ويقسمون المياه الجارية من تلك الأبواب إلى جداول مرتبة، وكانوا يسقون المزارع والبساتين كيفما يشاءون.
وزادت بلاد سبأ عمرانا بعد أن عمرت بلقيس سد مأرب، ورتبت البساتين التى حول الجداول كأنها رسوم مرسومة فوق الأوراق، وأخذ أهالى بلاد سبأ يتنعمون يوما بعد يوم، وأخذوا يركنون إلى قضاء أيامهم فى الحدائق والبساتين فى فرح وسرور، وأصابهم الكبر والغرور بل تجرءوا على الكفر والطغيان كما جاء فى القرآن الكريم وعصوا ربهم ولما كان واجبا على هؤلاء أن يقضوا أيامهم ولياليهم فى العبادة والطاعة والخضوع لله لما وهبوا من نعم لم يوهب مثلها لأى
أحد من أهالى البلاد الأخرى، ولكنهم ارتكبوا العكس فانهمكوا فى الشرك واستحقوا بهذا قهر الله-سبحانه وتعالى-القهار.
وكان من رحمة الله-سبحانه وتعالى-بأهل مأرب وسبأ أن أرسل لهم ثلاثة عشر نبيا متتابعين يدعونهم إلى طريق الهداية؛ ولم يعيروا آذانا ولم يصغوا لنصائح هؤلاء الأنبياء ووصاياهم، إذا قالوا لهم: «ياسكان مأرب التى تشبه جنات الفردوس! احرصوا على شكر الله والثناء عليه وأنتم تأكلون وتشربون من أنعم الله التى بذلها لكم الله سبحانه وتعالى، وبما أن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم فسيزيد من نعمتى الدارين عليكم، إذا زدتم فى الشكر لله سبحانه وتعالى!،أما إذا امتنعتم عن اتباع أوامر الله سبحانه وتعالى فسوف ينهار سد العرم ويفرقكم جميعا فيفنيكم ويهلككم، إلا أنهم قابلوا هذه النصائح والوصايا بالسخرية والاستهزاء، وبينوا أنهم لن يتركوا الأعمال التى تؤدى إلى العار وتستوجب العقاب والخسارة والعذاب، وأظهروا عدم رضاهم عن قرب قراهم ومدنهم بعضها من بعض، وودوا أن تبتعد هذه القرى والمدن بعضها عن بعض وفق ما جاء فى القرآن الكريم {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} {(15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} {(16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} {(17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ} {(18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ} (سبأ:15 - 19).
ولما قال لهم أنبياؤهم إن الله-سبحانه وتعالى-سيخرب هذا السد بواسطة الفئران، قالوا لهم إننا سوف نقضى على تلك الفئران التى سيخلقها-سبحانه وتعالى-لتخريب السد بواسطة الهرر والقطط،وفعلا أعدوا كثيرا من القطط - نتيجة لهذه الفكرة الخاطئة وربطوها بجانب السد.